جديد الموقع
recent

إثبات صفة الصورة لله جل وعلا

عبد الجليل مبرور
الحمد لله ربِّ العالَمين، والصلاة والسَّلام على النبيِّ الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعد:
فممَّا لا شك فيه أنَّ مِن تمام إيمانِ المرْءِ انقيادَه وتسليمَه لأوامر ربِّه، والإيمانَ بها بدون تردُّد أو شكٍّ؛ فإنَّ الخير كلَّ الخير في الخضوع لله ربِّ السَّموات والأرض العليِّ الكبير، وإنَّ الشرَّ كلَّ الشرِّ في التنطُّعِ والتعمُّق والتكلُّف في تكذيب كتاب الله، وسُنَّةِ نبيِّه، وفَهْمِ السَّلف الصالح؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دَعُوني ما تركْتُكم، فإنَّما هلَكَ مَن كان قبْلَكم بِسُؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهَيْتُكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بشيء فأْتُوا منه ما استطعتم))؛ أخرجه البخاري (7288).

فلذا كان لِزَامًا على المؤْمن أن ينقاد إلى ربِّه مطيعًا خاضعًا ذليلاً، ومحبًّا ومعظِّمًا له في ربوبيته وألوهيَّته، وأسمائه وصفاته، وهذا ما ميَّز أهْلَ السُّنة والجماعة عن سائر فِرَق المسلمين، وخصوصًا في باب الأسماء والصِّفات؛ حيثُ إنَّ مذْهبَهم هو إثْبات ما أثبَتَه الله لِنَفسه أو أثْبتَه له رسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تَكْييف ولا تمثيل.

وقد جاء في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنة والجماعة (875) عن الوليد بن مسلم أنه قال: "سألتُ الأوزاعيَّ وسُفْيان الثَّوري ومالكَ بن أنس والليثَ بن سعْد عن هذه الأحاديث التي فيها الرُّؤْية، فقالوا: أَمِرُّوها بلا كيف".

وجاء في الفقه الأكْبر لأبي حنيفة - نقلاً عن "اعتقاد الأئمة الأربعة" ص 9 -: "لا يُوصَف الله - تعالى - بصِفَات المخلوقين، وغضَبُه ورضاه صِفَتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السُّنة والجماعة، وهو يَغْضب ويَرضى، ولا يُقال: غضَبُه عقُوبتُه، ورِضاه ثوابُه، ونَصِفُه كما وصَف نفْسَه؛ أحَدٌ صمَدٌ، لم يلد ولم يُولَد، ولم يكن له كفُؤًا أحد، حيٌّ قادر، سميع بصير، عالم، يَدُ الله فوق أيديهم ليست كأيدي خلْقِه، ووَجْهه ليس كوجوه خلقه".

وقال - أيضا -: "لا ينبغي لأحد أن يَنطق في ذات الله بشيء، بل يَصِفُه بما وصَفَ به نفْسَه، ولا يقول فيه برأْيه شيئًا، تبارك الله وتَعالى ربُّ العالمين".

وأخرج الهروِيُّ عن أشهب بن عبدالعزيز قال: "سمعتُ مالكًا يقول: إيَّاكم والبدعَ، قيل: يا أبا عبدالله، وما البِدَع؟ قال: أهل البدع الذين يتكَلَّمون في أسْماء الله وصفاته، وكلامِه وعلْمِه وقدرته، ولا يسكتون عمَّا سكَتَ عنه الصحابة والتَّابعون لهم بإحسان"؛ "ذم الكلام".

وقال الشَّافعي: "أنْ يَبْتَلي اللهُ المرْءَ بما نهَى عنه خَلا الشِّرْك بالله - خيرٌ من أن يبتليه بالكلام"؛ "ذمُّ الكلام"، وقال الإمام أحمد: "لم يزل الله - عزَّ وجلَّ - متكلِّمًا، والقرآن كلام الله - عزَّ وجلَّ - غير مخلوق وعلى كلّ جهة، ولا يوصف الله بشيء أكثر مما وصَفَ به نفسه - عزَّ وجلَّ"؛ كتاب "المحنة" ص 68.

وقال الإمام البربهاري في "شرح السنة" ص56: "وكل ما سمعتَ من الآثار ممَّا لم يَبْلغه عقْلُك نحْوُ قولِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قلُوبُ العباد بين إصْبعَيْن من أصابع الرَّحْمن - عزَّ وجلَّ -))، وقولِه: ((إنَّ الله - تبارك وتعالى - يَنْزِل إلى سماء الدنيا))، و((يَنْزل يوم عرَفَة))، و((ينزل يوم القيامة))، و((جهنم لا يزال يطرح فيها، حتَّى يضعَ عليها قَدَمه - جلَّ ثناؤُه -))، وقول الله للعبد: ((إنَّ الله خلق آدم على صورته))، وقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((رأيت ربِّي في أحْسن صورة)) وأشباه هذه الأحاديث، فعليك بالتَّسْليم والتصديق والتفويض والرِّضا، لا تفسِّرْ شيئًا من هذه بِهَواك؛ فإنَّ الإيمان بهذا واجب، فمَن فسَّر شيئًا من هذا بهواه، أو رَدَّه فهو جهْمِي".

وفي ذلك يقول ابن تيميَّة - رحمه الله -: "إنَّ الأئمَّة المشْهورين كلّهم يُثْبِتون الصِّفات لله - تعالى - ويقولون: إنَّ القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ويقولون: إنَّ الله يُرَى في الآخِرَة، هذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم، وهذا مذهب الأئمَّة المتْبُوعين، مثل مالك بن أنس والثَّوْري والليث بن سعْد والأوزاعي وأبي حنيفة والشَّافعي وأحْمد..."؛ "منهاج السنة" (2/106).

ولعلَّ مِن أهمِّ المسائل التي كَثر الحديث عنها ما بيْنَ مثْبِت ونافٍ، هي صِفَة الصُّورة، وعلى الخصوص خَلْق آدم على صورة الرَّحْمن، فهذا بحْثٌ بسيط حول هذه المسألة، نحاول من خلاله الوقوفَ على القول الحقِّ الذي هو قول أهْل السُّنة والجماعة الذين يُثْبِتون هذه الصفة، خلافًا لغيرهم من الجهمية ومن تابَعَهم من أشاعرة وغيرهم.

وقد جعلتُه من مقدِّمة، وسبعة مباحث، وخاتمة:
المقدمة.
إثبات صفة الصورة لله - جل وعلا.
معنى الصورة لغة.
سبب الخلاف بين العلماء.
حجة من ضعَّف الحديث من العلماء.
حجَّة من صحَّحه.
الخلاف الحاصل حول ضمير على صورته.
فَهْم السَّلف للحديث.
خاتمة.

إثبات صفة الصورة لله جل وعلا

أخرج البخاري (6573) ومسلم (182) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ ناسًا قالوا لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا رسول الله، هل نَرَى ربَّنا يوم القيامة؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((هل تضَارون في رؤْية القمر ليلةَ البدْر؟)) قالوا: لا يا رسول الله... وفيه: ((يجمع الله الناسَ يوم القيامة، فيقول: مَن كان يعبد شيئًا فلْيتبعه، فيَتبع مَن كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ويتبع من كان يعبد القمرَ القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيتَ الطواغيت، وتَبقى هذه الأمَّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله - تبارك وتعالى - في صورة غير صورته التي يَعْرفون، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا يأتينا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنا عرفناه، فيأتيهم الله - تعالى - في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه...)) الحديث.

وأخرج البخاري (3326) ومسلم (2841) وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعًا...)) الحديث

وحديث ((رأيتُ ربِّي في أحْسن صورة))؛ رواه الترمذي (3235) وأحمد (2580).

فهذه الأحاديث قد تضافَرَت في إثبات صفة الصُّورة لله - تعالى - على ما يَلِيق بجلال وجْهه وعظيم سُلْطانه؛ فهي صفة ذاتية لله، خلافًا لِمَن أنكَرَها من الجهميَّة ومَن تابعهم، فبهذه الأحاديث قد أثبَتَ أهْلُ السُّنة والجماعة صفةَ الصُّورة.

ويقول ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث": "والَّذي عندي - والله تعالى أعلم - أنَّ الصُّورة ليست بأعْجَب من اليدَين والأصابع والعين، وإنَّما وقَع الإِلْف لتلك؛ لِمَجيئها في القرآن، ووقعَت الوَحْشة من هذه؛ لأنَّها لم تأتِ في القرآن، ونحن نؤْمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حدٍّ".

معنى الصورة لغة
قال ابن الأثير: "الصُّورة تَرِد في كلام العرب على ظاهرها، وعلى معْنَى حقيقة الشيء وهيئته، وعلى معنى صفته"؛ "النهاية" 3/59.

قال شيخ الإسلام: "لفظ الصورة في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يُسمَّى المخْلوق بها على وجْه التقْييد، وإذا أُطلِقت على الله اختصَّت به، مثل العليم، والقدير، والرحيم، والسميع، والبصير، ومثل خَلْقِه بيديه، واستوائِه على العرش، ونحو ذلك"نقض التَّأْسيس" 3/396.


سبب الخلاف بين العلماء
اتَّفق أهْلُ السُّنة والجماعة على إثبات صفة الصُّورة لله - جل وعلا - على ما يليق بِجَلاله وعظيم سلطانه، والخلاف بينهم محْصُور في مسألة "خَلْق آدم على صورة الرَّحْمن" فحَسْب، فمن صحَّحه أثْبتَ مُقْتَضاه، ومن ضعَّفه لم يجعله محَلاًّ لإثْباتها، ومَن افْترض صحَّته من الفِرَق الأخرى منهم أوَّلَه مشْيًا على قاعدتهم:
وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا
فَوِّضْهُ أَوْ أَوِّلْ وَرُمْ تَنْزِيهَا

والحديث رواه عبدالله بن أحمد في "السُّنة" 498، وابن أبي عاصم في "السنة" 529، وابن خزيمة في "التوحيد" 1/85، والدارقطني في "الصفات" 45، 48، وغيرهم من طريق جَرِير عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عَطَاء، عن ابن عمر مرفوعا: ((لا تقبِّحوا الوجْه؛ فإنَّ الله خلَقَ آدم على صورة الرَّحمن)).

حُجَّة من ضعَّف الحديث
عُمْدة مَن ضعَّف هذا الحديث هو ابن خزيمة - رحمه الله - في كتاب "التوحيد" 1/87 وقد أعلَّه بثلاث عِلَل:
الأُولى: أنَّ الثَّوري قد خالف الأعْمش في إسناده فأرسَلَه.

الثانية: عنعَنةُ الأعمش، وهي مردودة؛ لأنَّه مدلِّس ما لم يصرِّح بالسَّماع من حبيب بن أبي ثابت.

الثالثة: لا يُعلَم لحبيب بن أبي ثابت سمَاعٌ من عطاء.

ثم أضاف الشيخ الألباني - رحمه الله - علَّة رابعة، وهي تغَيُّر جرير بن عبدالحميد وسُوء حِفْظه، وقد اضْطَربت روايته برواية لفْظ ((على صورته)) عند ابن أبي عاصم 530، واللالكائي 716.

وقد قوَّى الشيخُ طارق عوض الله هذه العلَّة في حاشيته على "المنتخب من العلل" للخلاَّل بذِكْر الإمام الدارقطني لتفرُّد جرير بن عبدالحميد عن الأعْمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء؛ انظر "المنتخب من علل الخلال" لابن قدامة ص 269.

والخامسة: الانقطاع بين عطاء وابن عمر - رضي الله عنهما.

حجَّة من صحح الحديث
أمَّا بخصوص أنَّ ابن خُزَيمة ضعَّفه، فقد صححه مَن هو أجَلُّ منه، وهُما إسحاق بن راهويه وأحمد، ولا مُتَمسَّك لمن نفَى تصحيح أحمد لهذا الحديث؛ لأنَّ الاحتجاج فرْعُ التصحيح، ولا يُمْكِن للإمام أحمد أن يتَساهل في مِثْل هذا كما هو معلوم من أصوله.

ثم إنَّ هناك نقْلاً نَقَله الحافظُ في "الفتح" 5/183، قال إسحاق الكوسج: سمعتُ أحمد يقول: هو حديثٌ صحيح، هذا إذا احتجَّ في تصْحيحه بالرِّجال، خصوصًا وأنَّ الإمام أحمد يَعلم إرسال الثوري، ولم يَقدح في الحديث عنده.

من جهة أخرى فللحديث شواهد تقوِّيه:
أوَّلُها: عند ابن أبي عاصم (1/ 227 - 228): حدَّثنا محمد بن ثعلبة بن سواء، حدَّثني عمِّي محمَّد بن سواء، عن سعيد بن أبي عرُوبة، عن قتَادة، عن أبي رافع، عن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا قاتَلَ أحدُكم فليجتنب الوجْه؛ فإنَّ الله - تعالى - خلَقَ آدم على صورة وجْهه))؛ وإسناده صحيح.

الشيء الذي يَمنع تفسير ضمير "على صورته" بآدم الَّذي جاء من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((إذا قاتَلَ أحدُكم فليتَّقِ الوجه؛ فإنَّ الله خلَقَ آدم على صورته))؛ "المسْنَد" (2/512) وغيره، غير أنَّ الشيخ الألباني ضعَّف زيادة: "على صورة وجْهه" وفي ذلك نظَر؛ لأنَّ الزِّيادة إذا كانت بيانًا، وليس فيها نوع مُنافاة، فلا شذُوذ فيها وهي مقبولة، كما قرَّره ابنُ الصَّلاَح في "مقدِّمته"؛ قال في النوع الثاني من أنواع الزيادات قال: "ألاَّ يكون فيه منافاةٌ ومخالَفةٌ أصْلاً لما رواه غيره...".

ثانيها: ما رواه ابن أبي عاصم (533) من طريق ابن أبي مَرْيم، حدَّثنا ابن لهيعة عن أبي يونس سليم بن جبير، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من قاتلَ فلْيجتَنِب الوجه؛ فإنَّ صورة وجْه الإنسان على صورة وجْه الرحمن)).

وابن لهيعة وإن رُمِي بسوء الحفْظ، فحَديثه يعتبر به، ويَصْلح في الشَّواهد والمتابعات.

وقد أخرج ابن أبي عاصم في "السنَّة" (1/230) والدَّارقطني في "الصفات" (49) من طريق ابن لهيعة عن أبي يونس والأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا ضرَبَ أحَدُكم فليجتنب الوجه؛ فإنَّ صورة الإنسان على صورة الرحمن - عزَّ وجلَّ -)) وهذا إسناد رجاله ثقات، إلاَّ ابن لهيعة وهو يَصْلح في الشواهد والمتابعات.

قال الحافظ في "النُّزهة": "ومتَى تُوبع السيِّئ الحفْظ بِمُعتَبر، وكذا المستور والمرْسِل والمدلِّس - صار حديثُهم حسَنًا، لا لذاته؛ بل بالمجموع".

لذا صحَّح الحديث كلٌّ من الذَّهبي في "الميزان" والهيثمي في "مجمع الزوائد" وابن حجر العسقلاني في "الفتح"، ومن المعاصرين حماد بن محمد الأنصاري في رسالته "تعريف أهل الإيمان بصحة صورة الرحمن" وحمود التويجري في "عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن" والشيخ عبدالله الغنيمان في "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري".

الخلاف الحاصل حول ضمير "على صورته"
اختَلَف العلماء في تفسير ضمير "على صورته" على ثلاثة أقوال:
فقال ابن خزيمة ومن تابعه في كتاب "التوحيد" (1/84 - 85): "توهَّم بعض من لم يتَحَرَّ العلم أنَّ قوله ((على صورته)) يريد صورة الرحمن، عزَّ ربُّنا وجلَّ عن أن يكون هذا معنى الخبر، بل معنى قوله ((خلَقَ آدم على صورته)) الهاء في هذا الموضع كناية عن اسْم المَضْروب والمشتوم، أراد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ الله خلَقَ آدم على صورة هذا المضروب الذي أُمِر الضَّارب باجْتناب وَجْهِه بالضرب، والذي قبح وجهه".

وهذا تكليف للُّغة ما لا تُطِيق، وقد وجَّه ابنُ تيميَّة الردَّ على هذا القول من ثلاثةَ عشرَ وجْهًا يرجع فيها إلى "نقض التأسيس".

ويَكفي في ردِّ هذا القول أنَّ شيخ الإسلام نقَلَ عن الشيخ محمد الكرخي الشافعي أنَّه قال في كتابه: "الفصول في الأصول، عن الأئمة الفحول؛ إلزامًا لذوي البدع والفضول": "أمَّا تأويل مَن لم يتابِعه عليه الأئمَّة فغير مقبول، وإن صدَرَ ذلك عن إمام معروف غير مجهول، نحو ما يُنْسَب إلى أبي بكر محمَّد بن إسحاق بن خزيمة في تأويل الحديث: ((خلق آدم على صورته)) فإنَّه يفسِّر ذلك بذلك التَّأويل، ولم يتابعه عليه مَن قَبْلَه من أئمَّة الحديث".

وبعد ذلك قال شيخ الإسلام: "قلتُ: فقد ذكَر الحافظ أبو موسى المَدِيني فيما جمعه من مناقب الإمام الملقَّب بقوام السُّنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد التميمي صاحب كتاب "الترغيب والترهيب"، قال: سمعتُه يقول: أخطأ محمَّد بن إسحاق بنِ خزيمة في حديث الصورة، ولا يُطْعَن عليه بذلك، بل لا يُؤْخَذ عنه فحسب.

قال أبو موسى: أشار بذلك إلى أنَّه قلَّ مِن إمام إلاَّ وله زلَّة، فإذا تُرِك ذلك الإمام لأجْل زلَّته تُرِك كثير من الأئمة، وهذا لا يَنبغي أن يُفعل"، ونفس الشيء أشار إليه الذَّهبي في "سِيَر أعلام النبلاء" (17/374).

القول بعودة الضمير على آدم:
وهو مَحْكيٌّ عن أبي ثَوْر إبراهيم بن خالد الكلبي، وبعض محدِّثي البصْرة، وهو منسوب إلى أهل الكلام.

وهذا القول مردود بحديث ((خُلِق آدم على صورة الرحمن)) وفَهْمِ السَّلف له، وقد دَكَّ ابنُ تيميَّة هذا القول في "نقْضِ التأسيس"، والمانع من نقْله خوف الإطالة.

الضمير عائد على الله - عزَّ وجلَّ -:
وهذا القول هو قول جماهير السَّلف، كما حقَّقه شيخ الإسلام وانتصر له.

حيث قال في كتابه "نقض التأسيس": "لم يكن بين السَّلف مِن القرون الثلاثة نِزَاع في أنَّ الضمير في هذا الحديث عائد إلى الله - تعالى - فإنَّه مستفيض من طرُق متعدِّدة عن عدَد من الصَّحابة، وسياق الأحاديث كلِّها تَدُل على ذلك، وهو أيضًا مذكور فيما عند أهْل الكتابَيْن من الكتب؛ كالتوراة وغيرها، وما كان من العِلْم الموروث عن نبيِّنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلنا أن نستشهد عليه بما عند أهل الكتاب، كما قال - تعالى -: ﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43] ولكنْ كان مِن العلماء في القرن الثالث مَن يكره روايته، ويَرْوِي بعْضَه، كما يكره رواية بَعض الأحاديث لِمَن يخاف أنْ يلم نفْسه، ويفسد عقله أو دينه....".

وقد قيل غير هذه الأقوال، كما أنَّ بعْض المتأخِّرين أرجعوا الضمير إلى الله - عزَّ وجلَّ - غير أنَّهم أوَّلوا الصورة.

وهي كما قال العلماء تصوُّرُها كافٍ في بُطْلانها، ومِن هذه الأقوال:
أنَّ المراد بالصورة الصِّفة، وهذا مخالِفٌ للُّغة، فصار تأويلاً بلا دليل.

أنَّ إضافة الصورة إضافةُ تَشْريف، وهي مَرْدودة بأنَّ إضافة التَّشْريف تكون في الأعيان لا المعاني.

ومنهم مَن قال هي صورة يَخْلقها الله، فتقوُّل على الله بغير علْم، والنَّصُّ موجود، فإذا كان النصُّ موجودًا ولم تَقْبلوه، أفنَقبل قياسَكم الذي هو أوْهَى من بيت العنكبوت، بل هو مَحْضُ تخَرُّص بغير علْم، فما دام هذا القول عاريًا عن الدَّليل فلا وَزْن له.

وقد استطرد شيخُ الإسلام في توجيه الردود على هذه الأقوال وغيرها، وقد أعرَضْتُ عن ذِكْرها؛ لأنَّها لا تساوي في الميزان العِلْمي شيئًا، وقد تكَفَّل شيخُ الإسلام بدكِّها من أساسها، فجزاه الله خيرًا عن المسلمين.

كيف فَهِم السلف الحديث؟
بعد أن ثَبَت لنا صحَّةُ حديث ((خلَق اللهُ آدَمَ على صورة الرحمن))، بَقِي أن نَبحث في فَهْم أئمَّة السَّلف له؛ هل أوَّلوه أو أنَّهم أثْبتوه على ما تقرَّر عند أهْل السنة والجماعة مِن إمْرارها كما جاءت بلا كيف؟

قال شيخ الإسلام: "وقد ذكَر الخَلاَّل في السُّنة ما ذكَرَه إسحاق بن منصور الكوسج عن أحمد وإسحاق، أنَّه قال لأحمد: ((لا تُقَبِّحوا الوجه؛ فإنَّ الله خلَقَ آدم على صورته))، أليس تَقُول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح، وقال إسحاق: صحيح.

وذُكِر عن يعقوب بن بختان أنَّ أبا عبدالله أحمدَ بن حنبل سُئِل عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خلَقَ اللهُ آدمَ على صورته)) قال الأعمش: يقول عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن عمر.

قال: وسمعتُ أبا عبدالله، يقول: لقد سمعتُ الحميديَّ بحضرة سفيان بن عيينة وذَكَر هذا الحديث: ((خلَقَ الله آدمَ على صورته))، فقال: مَن لا يقول بهذا الحديث فهو كذا وكذا، يَعني من الشَّتْم، وسفيان لا يرُدُّ عليه شيئًا.

قال المروزي: أظنُّ أنِّي ذَكَرت لأبي عبدالله عن بعْضِ المحدِّثين بالبصرة أنَّه قال: قوْلُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – ((خلَق الله آدم على صورته))، قال: صورة الطِّين، قال: هذا جَهْمي، وقال: نسلِّم للخبر كما جاء، ورَوى الخَلاَّل عن أبي طالب مِن وجهين، قال: سمعتُ أبا عبدالله - يعني: أحمد بن حنبل - يقول: "مَن قال: إنَّ الله خلق آدَم على صورة آدم، فهو جهْمي، وأيُّ صورة كانت لآدم قبل أن يَخلقه؟"؛ انظر "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري" للغنيمان.

خاتمة:


لا ريب في أنَّ الصُّورة صفة ثابتةٌ لله - تعالى - بلا خلاف بين السَّلَف كما قُلْنا في أوَّل البحث، والخلاف مَحْصور في ضمير "صورته" هل يَصْلح حديثُ صورة الرَّحْمن مفسِّرًا له أو لا؟ فتبَيَّن من خلال البحث أنَّ الحديث صحيح بلا شكٍّ، وأنَّ الَّذين ضعَّفوه قد كَلَّفوا طُرَقه ما لا تُطِيق من الطَّعن والنقد لِرَدِّه، وما ذلك إلاَّ لعدم سعَةِ عقولهم له، ولكنْ على فَرْض ضعْفه، أليس لنا في فَهْم السَّلف أُسْوَة؟ ونحن نتغَنَّى باتِّباعهم، وهم قد فَهِموا وأثبتوا فلا يَسَعُنا إلا اتِّباعهم، وأنَّ مَن خالف في هذا ما معه إلاَّ تكَلُّفات وتفريعات ما تكَلَّفها أهل القرون الأولى.

فالواجب هو إثبات أنَّ الله - تعالى - خلَقَ آدم على صورته - عزَّ وجلَّ - كما أخْبَر الحديثُ، وأنَّ هذا لا يَسْتَلزم التشبيه بل لا بد أن يكون ذلك في إطار قوله - تعالى -: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، فالله - عزَّ وجلَّ - سميع بصير، والإنسان سميع بصير، ومع ذلك فلم يَلْزَم أهْلَ السنة والجماعة من إثبات ما أثبَتَته النصوص من السَّمْع والبصر - تشبيهُ الله - تعالى - بخلْقِه الموصوفين بتلك الصِّفات - تعالى اللهُ عن ذلك علوًّا كبيرًا.

وحديث الصورة المذكور هو من جملة النصوص التي أثبَتَ الله - تعالى - لنفسه فيها على لسان رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما هو - سبحانه - أعلم بكيفيته وكُنْهِه، وما على المؤمن الحقِّ إلاَّ التَّسليم له - تعالى - فيما أخبر، وإثبات ما أثبت.

هذا، وما كان من توفيق فَمِن الله وحْدَه، وما كان من خطأٍ فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسولُه منه برَاء.

وصلَّى الله وسلَّم وبارك على سيِّدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات
0 التعليقات
يتم التشغيل بواسطة Blogger.