جديد الموقع
recent

مباحث في العرف


     جمع وتأليف عبد الجليل مبرور 
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
لا شك أن اعتبار العرف يعد من القواعد الأصيلة والعظيمة في الشريعة الإسلامية التي راعت مصالح العباد في دينهم ودنياهم، كما يعد ضابطا مهما لتحقيق منافع الدنيا والآخرة في غير مصادمة لنص أو خرق لإجماع أو أصل كلي،  مما جعل هذه الشريعة الغراء مرنة بحسب الأحوال والأمكنة والأزمنة والعادات، تراعي في أحكامها التيسير ورفع الحرج بما يجعل الأمة توائم مستجداتها ونوازلها بما يزيل الإشكالات ويحل المعضلات، وبالتالي يجعلها صالحة لكل زمان ومكان في واقع هلامي لا تثبت فيه عادة، بل الكل فيه نسبي تحت عجلة التطور السريع، مما يجعل آلية الفتوى مواكبة لهذا التسارع الكبير على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية و السياسية، فبتغير هذه العادات والأعراف تتغير الفتاوى والأحكام، الشيء الذي يفرض تحديات هامة على فقهائنا بعيدا عن الجمود على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدل الأعراف حتى لا تتعسر أحوال المسلمين، وتنشأ هوة سحيقة بين دينهم وواقعهم تكون سببا لنفرة أهله عنه، فالواجب إسقاط النصوص المطلقة على أعراف الناس وواقعهم لتيسير تطبيق شرع الله جل وعلا وإعلاء لكلمته.
وقد جمعت هذه المباحث تيسيرا لفهم ضوابط الأخذ بهذه القاعدة المهمة، وكي لا تتخذ من جهة أخرى ذريعة لرد النصوص بدعوى العادة محكمة، أو هذا الأمر مما عمت به البلوى والتي أصبح بعضهم ممن ينتسبون إلى العلم الشرعي يجعلونها مسوغا لتبرير الكثير من البلايا والرزايا التي انتشرت  في هذا العصر، وقد جعلت هذا البحث وفق الخطة التالية :
تمهيد
المبحث الأول : تعريف العادة والعرف لغة
أولا تعريف العادة لغة :
ثانيا : تعريف العرف لغة
ثالثا : تعريف العادة والعرف اصطلاحا
المبحث الثاني : حجية العادة و العرف
المبحث الثالث : العادة محكمة
شروط الاستدلال بالعرف و العادة :
الشرط الأول : أن تكون العادة مطردة أو غالبة
الشرط الثاني : العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر
الشرط الثالث : أن لا يخالف نصا ثابتا أو أصلا شرعيا قطعيا
لذلك فتعارض العرف مع الشرع
المبحث الرابع : تغير الأحكام الشرعية بتغير العادات والأعراف
المبحث الخامس : موارد اعتبار العرف
المبحث السادس : أقسام العرف
المبحث السابع : تخصيص العام بالعرف والعادة
المبحث الثامن : تطبيقات العرف والعادة في الفروع الفقهية
المثال الأول : هل الأيمان مبنية على العرف أو النية أوصيغة اللفظ ؟
المثال الثاني : ما معيار الاستعمال غير المعتاد وترتب ضرر للغير؟
المثال الثالث : العرف هو المقياس في إحياء الموات عند الشافعية
المثال الرابع : الرجوع إلى العرف في المساقاة عند عدم الاتفاق الصريح
المثال الخامس : مرجع الاختلاف في قبض المهر المعجل
المثال السادس : المبيع المطلق هل ينعقد مؤجلا أم معجلا
المثال السابع : الحقوق المعنوية المعاصرة مقومة ماليا حسب العرف المعاصر
خاتمة  
كتبه

المبحث الأول : تعريف العادة والعرف لغة

والعادة الديدن يعاد إليه معروفة، وجمعها عاد وعادات وعيد الأخيرة عن كراع وليس بقوي إنما العيد ما عاد إليك من الشوق والمرض ونحوه وسنذكره.
وتعود الشيء وعاده وعاوده معاودة وعوادا واعتاده واستعاده وأعاده أي صار عادة له أنشد ابن الأعرابي:
لم تزل تلك عادة الله عندي     والفتى آلف لما يستعيد
وقال:
تعود صالح الأخلاق إني     رأيت المرء يألف ما استعادا
وقال أبو كبير الهذلي يصف الذئاب:
إلا عواسل كالمراط معيدة     بالليل مورد أيم متغضف
أي وردت مرات فليس تنكر الورود.([1])
(عرف) العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلا بعضه ببعض، والآخر على السكون والطمأنينة.
فالأول العرف: عرف الفرس. وسمي بذلك لتتابع الشعر عليه. ويقال: جاءت القطا عرفا عرفا، أي بعضها خلف بعض.
ومن الباب: العرفة وجمعها عرف، وهي أرض منقادة مرتفعة بين سهلتين تنبت، كأنها عرف فرس. ...
والأصل الآخر المعرفة والعرفان. تقول: عرف فلان فلانا عرفانا ومعرفة. وهذا أمر معروف. وهذا يدل على ما قلناه من سكونه إليه، لأن من أنكر شيئا توحش منه ونبا عنه.
ومن الباب العرف، وهي الرائحة الطيبة. وهي القياس، لأن النفس تسكن إليها. يقال: ماأطيب عرفه. قال الله سبحانه وتعالى: {ويدخلهم الجنة عرفها لهم} [محمد: 6]، أي طيبها. قال:
إلا رب يوم قد لهوت وليلة *** بواضحة الخدين طيبة العرف
والعرف: المعروف، وسمي بذلك لأن النفوس تسكن إليه. قال النابغة:
أبى الله إلا عدله ووفاءه *** فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
(....)ويقال: النفس عروف، إذا حملت على أمر فباءت به أي اطمأنت. وقال:
فآبوا بالنساء مردفات *** عوارف بعد كن واتجاح([2])
من خلال مقارنة التعريفين السابقين لكل من العادة والعرف، نجد أن الأمر كي يصير عادة يجب أن يتوفر فيه عنصر التكرار مرة بعد أخرى، وهذا طبعا يعم جميع الأشياء أقوالا كانت أم أفعالا أم طبائع أو غير ذلك، أما شرط العرف فهو التتابع من جهة والسكون والطمأنينة والاستقرار.
 عندما تطرق الفقهاء لتعريف العادة والعرف نجد أنهم لم يفرقوا بينهما اصطلاحا ما دام أن مبنى الحكم عليهما معا، لكون عامل التكرار الذي تتسم به العادة يجعل الناس يسكنون ويطمئنون لهذه العادة، ويستقر تعاملهم عليها فتصير بذلك عرفا وبالعكس، وهذا ما جعل الفقهاء يعبرون عن أحدهما بالآخر ولم يفرقوا في تعريفهم بفارق مؤثر بينهما، فنجدهم تارة يعبرون بقولهم العادة محكمة، كما نجدهم يعبرون بقولهم المعروف عرفا كالمشروط شرطا، إلى غيرها من القواعد الفقهية المتصلة بموضوع العرف والمبسوطة في كتب القواعد الفقهية.
يقول ابن عابدين : والعادة مأخوذة من المعاودة فهي بتكررها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول متلقاة بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية فالعادة و العرف بمعنى واحد من حيث الماصدق وإن اختلفا من حيث المفهوم ([3])
لذا عرفهما الجرجاني تعريفا لطيفا فقال : العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع بالقبول وهو حجة أيضا لكنه أسرع إلى الفهم وكذا العادة هي ما استمر الناس عليه على حكم العقول وعادوا إليه مرة أخرى([4])
وعرفها القرافي بقوله: والعادة غلبة معنى من المعاني على الناس([5])
وعرفها ابن أمير حاج بقوله : وهي الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية والمراد([6])
وعرفها ابن عابدين : نقلا عن الهندي في شرح المغني بقوله : عبارة عما استقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة ([7])

المبحث الثاني : حجية العادة و العرف .

اتفق الفقهاء على حجية العادة أو العرف الصحيح وهو مقبول عندهم شريطة أن يكون صحيحا وعاما، ولم يخالف نصا شرعيا أو قاعدة شرعية عامة، وكان مطردا أو غالبا .([8])
واستدلوا لحجيته بأدلة منها :
·       قوله Y : (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ)   [الأعراف:199]
·              وبقوله Y :(ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ)   [النساء:115]، وجه الدلالة منه كون سبيل المؤمنين هو ما استحسنوه و ألفوه وتعارفوا عليهم .
·              وبقوله Y : (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)   [المائدة:89] ووجه الدلالة منه أنه أسند التقدير في الإطعام إلى ما تعارفه الناس بقوله Y : "من أوسط "، فيقول ابن تيمية رحمه الله : "مذهب أحمد وأصوله فإن أصله أن ما لم يقدره الشارع فإنه يرجع فيه إلى العرف وهذا لم يقدره الشارع فيرجع فيه إلى العرف لا سيما مع قوله تعالى { من أوسط ما تطعمون أهليكم }....إلى أن قال : فما له حد في الشرع أو اللغة رجع في ذلك إليهما . وما ليس له حد فيهما رجع فيه إلى العرف"([9])
·   وجاء في الموسوعة الكويتية : " النفقة الواجبة قد تكون عينا وقد تكون قيمة ، فإذا كانت عينا فالواجب من الإطعام - كما في القيمة - يعتبر بحال الزوجين جميعا عند المالكية والحنابلة ، وهو المفتى به عند الحنفية ، فإن كانا موسرين فإطعام الموسرين ، وإن كانا متوسطين فإطعام الوسط ، وإن كان أحدهما معسرا والآخر موسرا فالتوسط ، وإن كانا معسرين فنفقة الإعسار ، ويعتبر العرف في ذلك ، واستدلوا بقوله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم }  وذهب الشافعية إلى اعتبار حال الزوج فقط ، واستدلوا بقوله تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته } سورة الطلاق الآية 7 ، وقد أجاز الحنفية استبدال القيمة بالإطعام ."([10])
·       وبما روي عن النبي e : " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن"([11])
·   و بحديث عائشة رضي الله عنها أن هند بنت عتبة قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال :" خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "([12])
·   قال العز بن عبد السلام :" ولم تكن هند عارفة بكون المعروف مدين في حق الغني ومدا في حق الفقير ومدا ونصفا في حق المتوسط، وقد نص الله على أن الكسوة بالمعروف في قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}. وكذلك السكنى وماعون الدار يرجع فيها إلى العرف من غير تقدير، والغالب في كل ما ورد في الشرع إلى المعروف أنه غير مقدر، وأنه يرجع فيه إلى ما عرف في الشرع، أو إلى ما يتعارفه الناس، ولا فائدة في تقدير الحب فإن ما يضم إليه من مؤنة إصلاحه مجهول، والمجهول إذا ضم إلى المعلوم صار الجميع مجهولا، ولم يعهد في السلف ولا في الخلف أن أحدا أنفق الحب على زوجته مع مؤنته، بل المعهود منهم الإنفاق على ما جرت به العادة".([13])
·   ومن الأدلة أيضا عقد السلم الذي أقره النبي e فقال : " من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم "([14]) وعقد الاستصناع كما في حديث سهل قال بعث رسول الله e إلى امرأة " أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أجلس عليهن"([15]) وهذه عقود كانت تتم قبل الإسلام، أقرها النبي e لكونها كانت على عرفهم وعاداتهم، رغم أنها على خلاف الأصل من كونها بيع للمعدوم.

المبحث الثالث : العادة محكمة .

هذه إحدى القواعد الخمس الكبرى وقد وردت في أغلب كتب القواعد الفقهية بهذه الصيغة، أو بما يدل على مضمونها، كما وردت في بعض كتب أصول الفقه، وكتب في معناها، وما يتعلق بها كتب مستقلة.
يعني الفقهاء بهذه القاعدة أنه يرجع في تحديد المراد من بعض الألفاظ الشرعية، والألفاظ التي يتعامل بها الناس، وبناء الأحكام الشرعية عليها إلى عادة الناس وما تعارفوا عليه، وذلك إذا لم يرد الشرع بتحديده، ولم يتضمن المعنى اللغوي للفظ تحديدا وتقديرا له.([16])
سبق أن علمنا أن العرف المعتبر عند الفقهاء هو ما كان صحيحا، وكي يكون صحيحا فلا بد من توافر الشروط التالية :
قال السيوطي : " إنما تعتبر العادة إذا اطردت فإن اضطربت فلا  "([17])
ومعنى هذا أن العادة يجب أن تكون معمولا بها في كل الأوقات وأن تكون سمة غالبة لبلد معين تنصرف الأذهان إليها عند كل إطلاق في معاملاتهم، ومعنى اضطرابها أن يتردد معنى اللفظ في معاملات الناس وإطلاقاتهم بين معان مشتركة تساوت في القوة فلا يدرى على ماذا يحمل قصدهم، وهنا يجب البيان حال المعاملة بما يزيل كل إبهام أو إشكال .
 وقد مثل لها السيوطي وغيره بأمثلة منها :
 منها : باع شيئا بدراهم و أطلق نزل على النقد الغالب فلو اضطربت العادة في البلد وجب البيان و إلا يبطل البيع
و منها : غلبت المعاملة بجنس من العروض أو نوع منه انصرف الثمن إليه عند الإطلاق في الأصح كالنقد
و منها : استأجر للخياطة و النسخ و الكحل فالخيط و الحبر و الكحل على من ؟ خلاف صحح الرافعي في الشرح الرجوع فيه إلى العادة فإن اضطربت وجب البيان و إلا فتبطل الإجارة....([18])
وهنا نصطدم مع إشكال وهو هل يلزم من كونها مطردة ألا يكون فيها انخرام في آحاد هذه العادة؟ أي هل حكمها أغلبي أم كلي؟
من المعلوم عند الفقهاء أن مبنى الأحكام الشرعية يكون للغالب ولا عبرة بالشذوذ أو انخرام بعض آحاد القواعد، لكون كل قاعدة فقهية لها استثناءات، وعامة هذه الاستثناءات لا ترقى لمستوى إبطال القاعدة وإسقاطها، فالنادر في الشرع لا حكم له، وهو ما عبر عنه العلماء بقولهم إنما العبرة بالغالب.
فيقول الشاطبي رحمه الله : " وإذا كانت العوائد معتبرة شرعا فلا يقدح في اعتبارها انخراقها ما بقيت عادة على الجملة وإنما ينظر في انخراقها، ومعنى انخراقها أنها تزول بالنسبة إلى جزئي فيخلفها في الموضع حالة إما من حالات الأعذار المعتادة في الناس أو من غير ذلك"([19])
ويقول محمد صدقي البرنو :" أن تكون العادة مطردة، أي أن العمل بموجبها مستمر بين الناس أو معظمهم في شؤون حياتهم، لأن العادة إذا كان يعمل بها في وقت دون وقت لا تصلح أن تكون حكما.
وكذلك يشترط أن تكون العادة غالبة شائعة بين الناس فلا اعتبار لعادة يعمل بها فئة من الناس ولا يعمل بها آخرون"([20])
ويقول عزت عبيد الدعاس :" إنما العادة  المعتبرة التي تبنى عليها الأحكام الشرعية إنما هي المطردة أو الغالبة ، وإن الشيوع في الأكثر كاف إذ لا عبرة للأقل، والعادة المطردة تنزل منزلة الشرط"([21])
 قال الرافعي : العادة الغالبة إنما تؤثر في المعاملات لكثرة وقوعها و رغبة الناس فيما يروج في النفقة غالبا ولا يؤثر في التعليق و الإقرار بل يبقى اللفظ على عمومه فيها .
يقول مصطفى الزرقا :" إنما تعتبر العادة إذا كانت سابقة، فلا عبرة بالعرف الطارئ"([23])
ومعنى هذا أن هذا القيد مهم جدا لكون معاملات الناس يجب أن تحمل على ما تعارفوه من عادات وقت إنجازها، ولا يمكن حمل إطلاقاتهم ومقاصدهم على ما طرأ وحدث من عادات بعد ذلك، ما لم يوجد تصريح بخلافه وقت المعاملة فيعد نقلا عن الأصل المتعارف عليه وبالتالي يجب المصير إليه ولا بد، لأن العرف المطردة ينزل منزلة الشرط كما يقول الفقهاء، فالتصريح بخلافه تصريح بإلغاءه صراحة.
ومثال ذلك :
و لو أقر بألف مطلقة في بلد دراهمه ناقصة لزمه الناقصة في الأصح و قيل يلزمه وافية لعرف الشرع و لا خلاف أنه لو اشترى بألف في هذه البلد لزمه الناقصة لأن البيع معاملة و الغالب : أن المعاملة تقع بما يروج فيها بخلاف الإقرار .([24])

لأن في ذلك ذهاب للشريعة و هدم لأركانها ، فالناس اليوم قد تعارفوا شتى أصناف المنكرات، وقد عمت بها البلوى كشرب الخمر والحكم بالتشريعات الوضعية والنظم الغربية وفتح الحانات والتعامل بشتى أنواع العقود الفاسدة والغرر والجهالة و لبس الحرير والذهب للرجال و لعب القمار واليانصيب والحجاب المتبرج فضلا عن التبرج، ومضاحكة الرجل للمرأة والاختلاط والانفراد بالنساء وتشييع الجنائز مع النساء وملامسة النساء للرجال في الأماكن العامة ووسائل النقل، والفن الهابط والوضيع ، والتمثيل الفاضح والخليع والبناء على المقابر وتسريجها وغيرها من صنوف الفساد الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي مما لا يمكن أن يستحله إلا فاسق وخارج عن الملة بالإجماع.
هو نوعان :
 أحدهما : أن لا يتعلق بالشرع حكم ، فيقدم عليه عرف الاستعمال .
 فلو حلف لا يأكل لحما ؛ لم يحنث بالسمك ، وإن سماه الله لحما ، أو لا يجلس على بساط أو تحت سقف أو في ضوء سراج ، لم يحنث بالجلوس على الأرض وإن سماها الله بساطا ، ولا تحت السماء ، وإن سماها الله سقفا ، ولا في الشمس ، وإن سماها الله سراجا ، أو لا يضع رأسه على وتد ، لم يحنث بوضعها على جبل ، أو لا يأكل ميتة أو دما ، لم يحنث بالسمك والجراد والكبد والطحال ، فقدم العرف في جميع ذلك ؛ لأنها استعملت في الشرع تسمية بلا تعلق حكم وتكليف .
والثاني : أن يتعلق به حكم فيقدم على عرف الاستعمال .
فلو حلف لا يصلي ؛ لم يحنث إلا بذات الركوع والسجود أو لا يصوم ، لم يحنث بمطلق الإمساك ، أو لا ينكح حنث بالعقد لا بالوطء .
أو قال : إن رأيت الهلال فأنت طالق ، فرآه غيرها ، وعلمت به ، طلقت ، حملا له على الشرع فإنها فيه بمعنى العلم لقوله :" إذا رأيتموه فصوموا "([26]) .
ولو كان اللفظ يقتضي العموم ، والشرع يقتضي التخصيص ، اعتبر خصوص الشرع في الأصح .
فلو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بالميتة ، أو لا يطأ لم يحنث بالوطء في الدبر على ما رجحه في كتاب الأيمان ، أو أوصى لأقاربه لم تدخل ورثته عملا بتخصيص الشرع إذ لا وصية لوارث أو حلف لا يشرب ماء ، لم يحنث بالمتغير كثيرا بزعفران ونحوه .([27])
وقد جاء في مجلة المجمع (ع 5، ج4 ص 2921)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1-6 جمادى الأول 1409هـ الموافق10-15 كانون الأول (ديسمبر)1988م،
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع العرف ، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله ،
قرر ما يلي :
أولا : يراد بالعرف ما اعتاده الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك ، وقد يكون معتبرا شرعا أو غير معتبر .
ثانيا : العرف ، إن كان خاصا ، فهو معتبر عند أهله ، وإن كان عاما ، فهو معتبر في حق الجميع .
ثالثا : العرف المعتبر شرعا هو ما استجمع الشروط الآتية :
أ - أن لا يخالف الشريعة ، فإن خالف العرف نصا شرعيا أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد .
      ب - أن يكون العرف مطردا (مستمرا ) أو غالبا .
ج - أن يكون العرف قائما عند إنشاء التصرف .
د - أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه ، فإن صرحا بخلافه فلا يعتد به .
رابعا : ليس للفقيه - مفتيا كان أو قاضيا - الجمود على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدل الأعراف .
والله أعلم

المبحث الرابع : تغير الأحكام الشرعية بتغير العادات والأعراف .

يقول ابن القيم :" هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة في شيء وإن أدخلت فيها التأويل"([28])
ويقول : " الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه
 والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة"([29])
وقد مثلوا لذلك بأمثلة منها ([30]):
·   إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه لانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في الصدر الأول ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين، فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم وكذا على الإمامة والأذان.
·       عدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة نظرا لفُشُو الكذب.
·   تضمين الأجير المشترك علما أن الأصل خلاف ذلك لأنه أمين إلا أن يتعدى أو يقصر، غير أنهم ضمنوه لكون الناس قد فشى فيهم ادعاء هلاك العين التي بأيدهم، فخولف الأصل حفاظا على أموال الناس.
·   تحقق الإكراه من غير السلطان، فقد كان أبو حنيفة لا يرى الإكراه إلا من السلطان، فلما كثر الظلم والظلمة خولف هذا الرأي لفساد الزمن.
·       ومنع النساء الشابات من حضور المساجد لصلاة الجماعة لفساد الزمان وسوء الأخلاق.
·       ودخول الحمام بدون بيان مدة المكث.
·   العرف الشائع بين الناس هو المحكم في بيان اتحاد المجلس أو تغيره، فإذا صدر القبول في حال اتحاد المجلس، نشأ العقد، وإذا صدر القبول بعد تغير المجلس لم يعتبر ولم ينشأ به العقد. وضابط ذلك أن القبول يكون معتبرا ما دام لم يتخلل بينه وبين الإيجاب ما يعد إعراضا عن العقد من أحد الطرفين، وما دام المجلس قائما.والاحتكام إلى العرف في بيان ما يغير المجلس متفق عليه بين المذاهب لأن ما ليس له حد في اللغة ولا في الشرع، يرجع فيه إلى العرف، فلو كان العاقدان في دار كبيرة يتغير المجلس بالخروج من البيت إلى صحن الدار، أو بالعكس، وإن كانا في دار صغيرة أو في سفينة أو مسجد صغير يتغير المجلس بخروج أحدهما منه، أوبصعود السطح، وإن كانا في سوق أوصحراء يتغير المجلس بأن يولي أحدهما ظهره ويمشي قليلا كثلاث خطوات. ولو تناديا بالعقد من مكان بعيد، بقي المجلس ما لم يفارق أحدهما مكانه، فإن مشى كل منهما ولو إلى صاحبه، تغير المجلس. ولو تماشى الطرفان مسافة دام المجلس، وإن زادت المدة على ثلاثة أيام ما لم يعرضا عما يتعلق بالعقد([31]).
·   وقال الشافعية: الإحياء الذي يملك به: يختلف بحسب الغرض المقصود من الأرض، ويرجع فيه إلى العرف، والعرف يمثل المصلحة عادة؛ لأن الشرع أطلقه، ولا حد له في اللغة، فيرجع فيه إلى العرف كالقبض في المبيع والموهوب، والحرز في السرقة: وهو في كل شيء بحسبه، والضابط: التهيئة للمقصود.([32])
·   الزواج ككل عقد ينشأ عنه حقوق وواجبات متبادلة يلزم بها كل من الزوج والزوجة، وقد نص القرآن الكريم على هذا المبدأ، فقال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/2] أي أن للنساء من الحقوق على الرجال مثل ما للرجال عليهن من واجبات، وأن أساس تقرير هذه الحقوق والواجبات هو العرف المستند إلى فطرة كل من الرجل والمرأة.([33])
·   يصح كون المهر معجلا أو مؤجلا كله أو بعضه إلى أجل قريب أو بعيد أو أقرب الأجلين: الطلاق أو الوفاة، عملا بالعرف والعادة في كل البلدان الإسلامية، ولكن بشرط ألا يشتمل التأجيل على جهالة فاحشة.([34])
·   لم يوجب الجمهور تعيين الأجر -بالنسبة للأجير- للعرف واستحسان المسلمين.([35]) وغيرها من الأحكام التي تدور مع اختلاف الزمان والمكان والعادات.
و على هذا فلاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، كما هو معروف مشهور، وذلك بسبب تغير العرف، أو تغير مصالح الناس، أو مراعاة الضرورة، أو لفساد الأخلاق، وضعف الوازع الديني، أو لتطور الزمن وتنظيماته المستحدثة. فيجب تغير الحكم الشرعي لتحقيق المصلحة ودفع المفسدة، وإحقاق الحق والخير. وهذا يجعل مبدأ تغير الأحكام أقرب إلى نظرية المصالح المرسلة منها إلى نظرية العرف.
ومما ينبغي ملاحظته أن الأحكام القابلة للتغير أو التطور هي المستنبطة بطريق القياس أو المصلحة المرسلة، وذلك في نطاق المعاملات أو الأحكام الدستورية والإدارية والعقوبات التعزيرية، مما يدور مع مبدأ إحقاق الحق وجلب المصالح ودرء المفاسد.
أما ماعدا ذلك من الأحكام الأساسية المقررة لغاية تشريعية أو مبدأ تنظيمي عام، فهي أمور ثابتة لاتقبل التطور، مثل أصول العقيدة والعبادات والأخلاق وأصول التعامل كحرمة محارم الإنسان، ومبدأ الرضائية في العقود، ووفاء العاقد بعقده أو عهده، وضمان الضرر اللاحق بالغير، وتحقيق الأمن والاستقرار، وقمع الإجرام، وحماية الحقوق الإنسانية العامة، ومبدأ المسؤولية الشخصية، واحترام مبدأ العدالة والشورى.

المبحث الخامس : موارد اعتبار العرف .

اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه ، في مسائل لا تعد كثرة.
فمن ذلك : سن الحيض ، والبلوغ ، والإنزال ، وأقل الحيض ، والنفاس ، والطهر وغالبها وأكثرها ، وضابط القلة والكثرة في الضبة ، والأفعال المنافية للصلاة ، والنجاسات المعفو عن قليلها ، وطول الزمان وقصره في موالاة الوضوء ، في وجه والبناء على الصلاة في الجمع ، والخطبة ، والجمعة ، وبين الإيجاب والقبول ، والسلام ورده ، والتأخير المانع من الرد بالعيب ، وفي الشرب وسقي الدواب من الجداول ، والأنهار المملوكة ، إقامة له مقام الإذن اللفظي ، وتناول الثمار الساقطة ، وفي إحراز المال المسروق ، وفي المعاطاة على ما اختاره النووي ، وفي عمل الصناع على ما استحسنه الرافعي وفي وجوب السرج والإكاف في استئجار دابة للركوب ، والحبر ، والخيط ، والكحل على من جرت العادة بكونها عليه ، وفي الاستيلاء في الغصب ، وفي رد ظرف الهدية وعدمه ، وفي وزن أو كيل ما جهل حاله في عهد رسول الله e فإن الأصح أنه يراعى فيه عادة بلد البيع ، وفي إرسال المواشي نهارا وحفظها ليلا ، ولو اطردت عادة بلد بعكس ذلك ، اعتبرت العادة في الأصح .
وفي صوم يوم الشك ، لمن له عادة ، وفي قبول القاضي الهدية ممن له عادة ، وفي القبض ، والإقباض ، ودخول الحمام ، ودور القضاة ، والولاة ، والأكل من الطعام المقدم ضيافة بلا لفظ ، وفي المسابقة ، والمناضلة إذا كانت للرماة عادة في مسافة تنزل المطلق عليها ، وفيما إذا اطردت عادة المتبارزين بالأمان ، ولم يجر بينهما شرط فالأصح أنها تنزل منزلة الشرط ([36]).
وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه بقوله :( باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والكيل والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة )
 قال بن المنير وغيره مقصوده بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف وأنه يقضي به على ظواهر الألفاظ ولو أن رجلا وكل رجلا في بيع سلعة فباعها بغير النقد الذي عرف الناس لم يجز وكذا لو باع موزونا أو مكيلا بغير الكيل أو الوزن المعتاد وذكر القاضي الحسين من الشافعية أن الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي يبنى عليها الفقه فمنها الرجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإضافية كصغر ضبة الفضة وكبرها وغالب الكثافة في اللحية ونادرها وقرب منزله وبعده وكثرة فعل أو كلام وقلته في الصلاة ومقابلا بعوض في البيع وعينا وثمن مثل ومهر مثل وكفء نكاح ومؤنة ونفقة وكسوة وسكنى وما يليق بحال الشخص من ذلك ومنها الرجوع إليه في المقادير كالحيض والطهر وأكثر مدة الحمل وسن اليأس ومنها الرجوع إليه في فعل غير منضبط يترتب عليه الأحكام كأحياء الموات والأذن في الضيافة ودخول بيت قريب وتبسط مع صديق وما يعد قبضا وإيداعا وهدية وغصبا وحفظ وديعة وانتفاعا بعارية ومنها الرجوع إليه في أمر مخصص كألفاظ الأيمان وفي الوقف والوصية والتفويض ومقادير المكاييل والموازين والنقود وغير ذلك([37]).

المبحث السادس : أقسام العرف .

ينقسم العرف باعتبار صيغته إلى:
عرف قولي : وهو أن تكون عادة أهل العرف يستعملون اللفظ في معنى معين ولم يكن ذلك لغة([38])نحو الدابة للحمار والغائط للنجو وغيرها.
عرف عملي : أن يوضع اللفظ لمعنى يكثر استعمال أهل العرف لبعض أنواع ذلك المسمى دون بقية أنواعه.
مثاله أن لفظ الثوب صادق لغة على ثياب الكتان والقطن والحرير والوبر والشعر وأهل العرف إنما يستعملون من الثياب الثلاثة الأول دون الأخيرين فهذا عرف فعلي وكذلك لفظ الخبز يصدق لغة على خبز الفول والحمص والبر وغير ذلك من أن أهل العرف إنما يستعملون الأخير في أغذيتهم دون الأولين فوقوع الفعل في نوع دون نوع لا يخل بوضع اللفظ للجنس كله فإن ترك مسمى لفظ لم يباشر لا يخل بوضع اللفظ.([39])
أما باعتبار انتشاره وشيوعه فينقسم إلى :
عرف عام : وهو كل قول أو عمل يكون منتشرا وشائعا بين الناس عامة بلا استثناء.
عرف خاص : وهو كل قول أو عمل يكون منتشرا وشائعا في مكان أو بلد دون آخر.

المبحث السابع : تخصيص العام بالعرف والعادة ([40]):

اتفق الأصوليون على أن العرف القولي مخصص للفظ العام([41])، وأما العادة الفعلية ففيها مذهبان، وذلك كما إذا كان من عادتهم أن يأكلوا طعاما مخصوصا وهو البر مثلا, فورد النهي المذكور وهو بيع الطعام بجنسه.
 المذهب الأول : وهو مذهب الأحناف و جمهور المالكية : الذين قالوا بتخصيص العام بالعرف العملي.
واستدلوا بأدلة منها :
·   فقاسوا العرف العملي على العرف القولي، لكون التفريق بينهما هو تحكم بلا دليل، فما ينقض اعتبار العرف العملي يصلح ناقضا للقولي أيضا.
·   وأجيب عنه بكون العرف القولي صار حقيقة عرفية غلبت على الإسم عند الإطلاق، أما العملي يحتاج إلى قرينة الفعل و معاودته، فصار قياس مع الفارق.
·       قالوا يتخصص به كتخصص الدابة بالعرف والنقد بالغالب.
·       وأجيب بأنه إن غلب الاسم عليه كالدابة اختص بخلاف غلبة تناوله.
·       قاسوا العام على المطلق لكون العرف العملي يقيد المطلق بالاتفاق.
·       وأجيب بأن ذلك قرينة قيدت المطلق، أما العموم فإخراج بعضه يحتاج إلى دليل.
 أما المذهب الثاني : فمذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية، الذين قالوا بإجراء العموم على عمومه. هكذا نقله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما، وقال في المحصول: اختلفوا في التخصيص بالعادات, والحق أنها إن كانت موجودة في عصره -عليه الصلاة والسلام- وعلم بها وأقرها، كما إذا اعتادوا مع الموز بالموز متفاضلا بعد ورود النهي وأقره, فإنها تكون مخصصة، ولكن المخصص في الحقيقة هو التقرير، وإن لم تكن بهذه الشروط فإنها لا تخصص؛ لأن أفعال الناس لا تكون حجة على الشرع، نعم إن أجمعوا على التخصيص لدليل آخر فلا كلام.
واستدلوا بأدلة منها:
·   الاعتبار بعموم اللسان ، ولا اعتبار بعموم ذلك الاسم على ما اعتادوه ، لأن الخطاب إنما يقع بلسان العرب على حقيقة لغتها ، فلو خصصناه بالعادة للزم تناوله بعض ما وضع له ؟ وحق الكلام العموم ، ولسنا ندري : هل أراد الله ذلك أم لا ؟ فالحكم للاسم ، حتى يأتي دليل يدل على التخصيص . وهذا كله بالنسبة إلى خطاب الله وخطاب رسوله ، فأما خطاب الناس فيما بينهم في المعاملات وغيرها ، فينزل على موضوعاتهم كنقد البلد في الشراء والبيع ، وغيره ، إذا أرادوه ، وإلا عمل بالعام .
·   لا يجوز التخصيص بالعادة ، مثل أن يرد خبر عن النبي عليه السلام في بيع أو غيره ، وعادة الناس تخالفه ، فيجب الأخذ بالخبر ، واطراح تلك العادة ، لأن الخبر إنما يرد لنقل الناس عن عادتهم ، فلا يترك بها ([42]).
·   لأن الحجة إنما هي في اللفظ الوارد، وهو مستغرق لمعناه بلفظه، ولا ارتباط له بالعوائد، وهو حاكم على العوائد، فلا تكون العوائد حاكمة عليه.
·   فإن قيل: إذا منعتم من تجويز تخصيص العموم بالعادة وتنزيل لفظ الطعام على ما هو المعتاد المتعارف عند المخاطبين، فما الفرق بينه وبين تخصيص اللفظ ببعض مسمياته في اللغة، بالعادة، وذلك كتخصيص اسم الدابة بذوات الأربع، وإن كان لفظ الدابة عاما في كل ما يدب، وكتخصيص اسم الثمن في البيع بالنقد الغالب في البلد، حتى إنه لا يفهم من إطلاق لفظ الدابة والثمن غير ذوات الأربع والنقد الغالب في البلد.
·   قلنا: الفرق بين الأمرين أن العادة في محل النزاع إنما هي مطردة في اعتياد أكل ذلك الطعام المخصوص، لا في تخصيص اسم الطعام بذلك الطعام الخاص، فلا يكون ذلك قاضيا على ما اقتضاه عموم لفظ الطعام مع بقائه على الوضع الأصلي، وهذا بخلاف لفظ الدابة، فإنه صار بعرف الاستعمال ظاهرا في ذوات الأربع وضعا، حتى إنه لا يفهم من إطلاق لفظ الدابة غير ذوات الأربع، فكان قاضيا على الاستعمال الأصلي، حتى إنه لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله قد خصصت بعرف الاستعمال اسم الطعام بذلك الطعام، لكان لفظ الطعام منزلا عليه دون غيره ضرورة تنزيل مخاطبة الشارع للعرب، على ما هو المفهوم لهم من لغتهم، وفيه دقة مع وضوحه.([43])
والذي يظهر والله أعلم أن الراجح هو قول الجمهور لأن عموم اللفظ مستغرق، وحصر هذا الاستغراق يحتاج إلى دليل قوي أما العرف فمتغير وغير ثابت، والشرع جاء لتغيير العوائد وتهذيبها، أي هو حاكم عليها وليس محكوما، فإذا تعذر فهم الحقائق وجب المصير إليه في ما لم يقدره النص، أما فتح هذا الباب فهو طريق لإهمال النصوص والتحكم في دلالاتها بلا موجب، يفتح باب شر على الأمة.
قال الشوكاني :" والعجب ممن يخصص كلام الكتاب والسنة بعادة حادثة بعد انقراض زمن النبوة تواطأ عليها قوم وتعارفوا بها، ولم تكن كذلك في العصر الذي تكلم فيه الشارع، فإن هذا من الخطأ البين والغلط الفاحش."([44])

المبحث الثامن : تطبيقات العرف والعادة في الفروع الفقهية .

لا شك أن أقرب شيء لفهم الأمر المجرد هو ضرب أمثلة لتقريبه والتعود عل تطبيقه، لذا يتوجب ضرب أمثلة تبين تخريج الفروع الفقهية على أصل العرف والعادة، وفيما يلي أمثلة تطبيقية :
قال الحنفية: الأيمان مبنية على العرف والعادة لا على المقاصد والنيات، لأن غرض الحالف: هو المعهود المتعارف عنده، فيتقيد بغرضه. هذا هو الغالب عندهم، وقد تبنى الأيمان عندهم على الألفاظ لا على الأغراض .
وقال الشافعية: الأيمان مبنية على الحقيقة اللغوية أي بحسب صيغة اللفظ، لأن الحقيقة أحق بالإرادة والقصد، إلا أن ينوي شيئا فيعمل بنيته، مثاله: لو حلف إنسان ألا يأكل رؤوسا، فأكل رؤوس حيتان (مفرده: حوت) فمن راعى العرف قال: لا يحنث، ومن راعى دلالة اللغة قال: يحنث. وكذلك يحنث من حلف لا يأكل لحما ، فأكل شحما مراعاة لدلالة اللفظ،وقال الآخرون: لا يحنث.
والخلاصة: أن الشافعي يتبع مقتضى اللغة تارة، وذلك عند ظهورها وشمولها، وهو الأصل العام، وتارة يتبع العرف إذا اشتهر واطرد......
وقال مالك في المشهور من مذهبه: المعتبر في الأيمان التي لا يقضى  على حالفها بموجبها وكذلك النذور هو النية ( أي نية الحالف في غير الدعاوى ففيها تعتبر نية المستحلف كما بان سابقا )، فإن عدمت فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفط أي ماقصد الناس من عرف أيمانهم، فإن عدم فدلالة اللغة، وقيل: لايراعى إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط، وقيل: يراعى النية وبساط الحال أي السبب الحامل على اليمين، أو المقام وقرينة السياق في اصطلاح علم المعاني. ولاينفع في النذر الاستثناء بالمشيئة.
وأما الأيمان التي يقضى بها على صاحبها: ففي مجال الاستفتاء تراعى هذه الضوابط على هذا الترتيب، وإن كان مما يقضى بها عليه لم يراع فيها إلا اللفظ إلا أن يؤيد ما ادعاه من النية قرينة الحال أو العرف.
قال الشاطبي: من مذهب مالك أن يترك الدليل للعرف، فإنه رد الأيمان إلى العرف، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير مايقتضيه العرف. كمن حلف لايدخل بيتا: لايحنث بدخول المسجد، لأنه لا يسمى بيتا في العرف.
وقال الحنابلة: يرجع في الأيمان إلى النية أي نية الحالف، فإن نوى بيمينه مايحتمله اللفظ انصرفت يمينه إليه، سواء أكان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ، أم مخالفا له لقول النبي e : «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها أو أثارها لدلالته على النية. فإن حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، فإن كان سبب يمينه غيظا من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منة عليه بها، اختصت يمينه بها. وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقضي جفاءها ولا أثر للدار فيه، تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار.([45])
إذا استعمل الإنسان حقه على نحو غير معتاد في عرف الناس، ثم ترتب عليه ضرر للغير، كان متعسفا، كرفع صوت المذياع المزعج للجيران والتأذي به، واستئجار دار، ثم ترك الماء في جدرانها وقتا طويلا، أو استئجار سيارة ثم يحملها أكثر من حمولتها، أو دابة ثم يضربها ضربا قاسيا أو يحملها ما لا تطيق.
ففي كل ذلك يعتبر متعسفا، فيمنع من تعسفه، ويعوض المتضرر عما أصابه من ضرر.
كذلك يمنع من استعمال حقه، إذا استعمل حقه استعمالا غير معتاد، ولم يترتب عليه ضرر ظاهر؛ لأن الاستعمال على هذا النحو لا يخلو من ضرر، وعدم ظهور الضرر لا يمنع من وجوده في الواقع، وإن كان يمنع من الحكم عليه بالتعويض لعدم وضوح الضرر، فإن كان الاستعمال معتادا مألوفا، ووقع الضرر فلا يعد تعسفا، ولا يترتب على ذلك ضمان، كالطبيب الجراح الذي يجري عملية جراحية معتادة، ويموت المريض، فلا يضمن. ومثله من يوقد فرنا يتأذى الجيران بدخانه، أو يدير آلة يتضرر الجيران بصوتها المعتاد، فلا ضمان؛ لأن كل ذلك معتاد مألوف.
وبناء عليه: من يشعل نارا في أرضه، فطار منها شرر أحرق شيئا لجاره، إن كان ذلك في أحوال عادية فلا ضمان عليه. وإن كان ذلك في وقت هبوب الرياح واشتدادها، فعليه الضمان.
وكذلك سقاية الأرض، إن كان سقيا عاديا، فتسرب الماء إلى أرض الجار، فلا ضمان ، وإن كان سقيا غير عادي بماء لا تحتمله الأرض عادة، فعليه ضمان الضرر اللاحق بالغير  .
والمقياس في ذلك هو العرف الذي يحدد كون التصرف معتادا أو غير معتاد. وعليه تطبق أحكام التعامل مع الخباز والكواء إذا أحرق ما سلم له، يضمن إذا تصرف تصرفا غير معتاد بزيادة وقود النار، وحرارة الكهرباء.([46])
الإحياء الذي يملك به: يختلف بحسب الغرض المقصود من الأرض، ويرجع فيه إلى العرف، والعرف يمثل المصلحة عادة؛ لأن الشرع أطلقه، ولا حد له في اللغة، فيرجع فيه إلى العرف كالقبض في المبيع والموهوب، والحرز في السرقة: وهو في كل شيء بحسبه، والضابط: التهيئة للمقصود.
فإن أراد إحياء الموات مسكنا، اشترط فيه تحويط البقعة بآجر أو لبن أو قصب بحسب عادة ذلك المكان. والمعتمد أنه لا يكتفى بالتحويط من غير بناء، بل لا بد من البناء، ويشترط سقف بعض الأرض ليتهيأ للسكنى، وتعليق (نصب) باب؛ لأن العادة في المنازل أن يكون لها أبواب، ولا تصلح الأرض للسكنى بما دون ذلك (أي بالبناء والسقف وتركيب باب).
وإن أراد إحياء الموات زريبة دواب أو نحوها، كحظيرة لجمع ثمار وغلات وغيرها،فيُكتفى بالتحويط بالبناء بحسب العادة، ولا يشترط سقف شيء؛ لأن العادة فيها عدمه. ولا بد فيه من تركيب باب على الأرجح مع البناء أو التحويط بالبناء.
وإن أراد إحياء الموات مزرعة، فيطلب جمع التراب حولها، وتسوية الأرض، وترتيب ماء لها بشق ساقية من نهر، أو بحفر بئر أو قناة أو نحوها، إن لم يكفها المطر المعتاد. ولا تشترط الزراعة فعلا في الأصح، لأنه استيفاء منفعة الأرض، وهو خارج عن الإحياء، كما لا يعتبر في إحياء الدار سكناها. والخلاصة: أنه بالتحويط وتسوية الأرض وإيجاد الماء.
وإن أراد إحياء الموات بستانا، فيشترط جمع التراب حول الأر ض كالمزرعة، والتحويط حيث جرت العادة به عملا بها، وتهيئة ماء كما تقرر في المزرعة. ويشترط أيضا في البستان غرس البعض على المذهب. فهذا الإحياء يكون بالتحويط وتسوية الأرض وإيجاد الماء والغرس.([47])
مثل ساقيتك على هذا النخل بثلث أو ربع ثمره، أو سلمته إليك لتتعهده، أو اعمل في نخيلي أو تعهد نخيلي بكذا من ثمره. ولو ساقاه عند الشافعية بلفظ الإجارة لم يصح في الأصح؛ لأن لفظ الإجارة صريح في عقد آخر. وتصح عند الحنابلة بلفظ المساقاة والمعاملة والمفالحة، وبلفظ الإجارة، كما تصح المزارعة بلفظ الإجارة، أي بإجارة أرض بجزء شائع معلوم، مما يخرج منها، لأن القصد المعنى، فإذا أتى به بأي لفظ دل عليه، صح العقد، كالبيع. وتصح أيضا بالمعاطاة.
ويشترط عند الشافعية القبول لفظا من الناطق، للزومها كإجارة وغيرها، وتصح بإشارة الأخرس المفهمة، ككتابته، دون تفصيل الأعمال فيها، فلا يشترط التعرض له في العقد، ويحمل المطلق في كل ناحية على العرف الغالب فيها في العمل، إذ المرجع في مثله إلى العرف.
وقال الحنابلة: لا تفتقر المساقاة (ومثلها المزارعة) إلى القبول لفظا، بل يكفي الشروع في العمل قبولا كالوكالة([48])
إذا اختلف الزوجان في قبض المعجل من المهر، بأن ادعى الزوج أنه وافاها كل المعجل، وقالت الزوجة: لم تقبض شيئا منه، أو قبضت بعضه. فقال الحنفية: إن كان الخلاف بينهما قبل الدخول، كان القول للزوجة بيمينها، وعلى الزوج أن يثبت ما يدعيه بالبينة. وإن كان الخلاف بينهما بعد الدخول؛ فإن لم يكن هناك عرف بتقديم شيء، فالقول قول الزوجة بيمينها، وإن كان هناك عرف فيحكم العرف في النزاع على أصل القبض، بأن قالت الزوجة: لم تقبض شيئا، فإن جرى العرف بتقديم النصف أو الثلثين، قضي عليها به، ويكون العرف مكذبا للزوجة في ادعائها عدم قبض شيء من المهر قبل الزفاف. وقد أفتى متأخرو الحنفية  بعدم تصديق المرأة بعد الدخول بها بأنها لم تقبض المشروط تعجيله من المهر، مع أنها منكرة للقبض؛ لأن العرف جرى بأن المرأة تقبض المعجل قبل الزفاف.وإن كان النزاع في قبض بعض المعجل، بأن قالت الزوجة: إنها قبضت بعض مهرها، وادعى الزوج أنه سلمها كامل المهر، فالقول قول الزوجة بيمينها؛ لأن الناس يتساهلون عادة في المطالبة بتسليم كل المهر بعد قبض بعضه، ويتم الزفاف قبل قبضه.
ووافق المالكية الحنفية في حالة الخلاف في قبض المعجل قبل الدخول أي القول قولها، وأما بعد الدخول: فالقول قوله بعد الدخول بيمينه، إلا إذا كان هناك عرف فيرجع إليه.
ووافق الشافعية والحنابلة الحنفية بدون تفرقة بين ما قبل الدخول وبعده، فقالوا: إن اختلف الزوجان في قبض المهر، فادعاه الزوج، وأنكرت المرأة، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم القبض، وبقاء المهر.
وإن كان الصداق تعليم سورة، فادعاه الزوج، وأنكرت المرأة، فإن كانت لا تحفظ السورة، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم التعليم. وإن كانت تحفظها ففيه وجهان:
أحدهما : أن القول قولها؛ لأن الأصل أنه لم يعلمها.
والثاني : أن القول قوله؛ لأن الظاهر أنه لم يعلمها غيره.
والخلاصة : إن اختلف الزوجان في القبض، فقالت الزوجة: لم أقبض، وقال الزوج: قد قبضت، فقال الجمهور(الشافعي وأحمد والثوري وأبو ثور) القول قول المرأة. وقال مالك: القول قولها قبل الدخول، والقول قوله بعد الدخول. وقال بعض أصحابه: إنما قال ذلك مالك؛ لأن العرف بالمدينة كان عندهم ألا يدخل الزوج حتى يدفع الصداق. فإن كان بلد ليس فيه هذا العرف، كان القول قولها أبدا، والقول بأن القول قولها أبدا أحسن؛ لأنها مدعى عليها. ولكن مالك راعى قوة الشبهة التي له إذا دخل بها الزوج.
وإن اختلف الزوجان فيما يرسله الرجل إلى زوجته، فادعى أنه المهر، وادعت المرأة أنه هدية، فالقول قوله بيمينه، والبينة لها عند الحنفية والشافعية.([49])
    المبيع المطلق ينعقد معجلا أما إذا جرى العرف في محل على أن يكون البيع المطلق مؤجلا أو مقسطا بأجل معلوم ينصرف البيع المطلق إلى ذلك الأجل . مثلا لو اشترى رجل من السوق شيئا بدون أن يذكر تعجيل الثمن ولا تأجيله لزم عليه أداء الثمن في الحال أما إذا كان جرى العرف والعادة في ذلك المحل بإعطاء جميع الثمن أو بعض معين منه بعد أسبوع أو شهر لزم إتباع العادة والعرف في ذلك.([50])
إذا وجد المشتري في الحنطة أو الشعير وأمثالهما من الحبوب المشتراة ترابا فإن كان ذلك التراب يعد قليلا في العرف صح البيع وإن كان كثيرا بحيث يعد عيبا عند الناس يكون المشتري مخيرا .
البيض والجوز وما شاكلهما إذا ظهر بعضها فاسدا ; فلا يستكثر في العادة والعرف كالاثنين والثلاثة في المائة يكون معفوا وإن كان الفاسد كثيرا كالعشرة في المائة ; كان للمشتري رد جميعه للبائع واسترداد ثمنه منه كاملا .([51])
يصح استئجار الدار والحانوت بدون بيان كونه لأي شيء وأما كيفية استعماله فتصرف إلى العرف والعادة .([52])
لو استكريت دابة من دون بيان مقدار الحمل ولا التعيين بإشارة يحمل مقداره على العرف والعادة .([53])
إذا كانت العارية من الأشياء النفيسة كالمجوهرات يلزم في ردها أن تسلم ليد المعير نفسه وأما ما سوى ذلك من الأشياء فإيصالها إلى المحل الذي يعد التسليم فيه في العرف والعادة تسليما وكذا إعطاؤها إلى خادم المعير رد وتسليم . مثلا الدابة المعارة تسليمها إيصالها إلى إصطبل المعير وتسليمها إلى سائسه.([54])
فقد جاء في مجلة المجمع (ع 5، ج 3ص 2267) ما نصه :
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1-6 جمادى الأول 1409هـ الموافق10-15 كانون الأول (ديسمبر)1988م،
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع الحقوق المعنوية ، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله ،
قرر ما يلي :
أولا : الاسم التجاري ، والعنوان التجاري ، والعلامة التجارية ، والتأليف والاختراع أو الابتكار ، هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها . وهذه الحقوق يعتد بها شرعا ، فلا يجوز الاعتداء عليها .
ثانيا : يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي ، إذا انتقى الغرر والتدليس والغش ، باعتبار أن ذلك أصبح حقا ماليا .
ثالثا : حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعا ، ولأصحابها حق التصرف فيها ، ولا يجوز الاعتداء عليها .
والله أعلم.

خاتمة

من خلال ما سبق نخلص إلى كون الأحكام تتغير بتغير العرف، أو تبدل مصالح الناس، أو مراعاة الضرورة، أو لفساد الأخلاق المتفشي بعد القرون الفاضلة، أوضعف الوازع الإيماني، أو لتطور الأزمان وتنظيماته المستحدثة. فيجب تكييف الحكم الشرعي وفق الأعراف لتحقيق المصالح ودرء المفاسد والتيسير على الأمة. مما يجعل للعرف صلة وثيقة بالمصالح المرسلة.
   ومما يجدر التنبيه عليه أن الأحكام القابلة المتغيرة  هي ما كانت بطريق القياس أو الاستصلاح أي المصلحة المرسلة، في المعاملات أو الأحكام التنظيمية والإدارية والتعزيرية، مما أطلق في الشرع مراعاة لجلب المصالح ودرء المفاسد.
أما الأحكام الثابتة الأصلية والمجمع عليها المؤطرة للتشريعات الكلية، فهي ثوابت غير قابلة للمزايدة، مثل أصول العقيدة والعبادات والأخلاق وأصول التعامل كحرمة محارم الإنسان، ومبدأ الرضا في العقود، والوفاء بعقود أو عهود، وضمان الأضرار التي تلحق بالغير، وتحقيق الأمن والاستقرار، ومكافحة الإجرام، وحماية الحقوق والمسؤوليات الشخصية، وإحقاق العدالة والشورى، ونبذ الرذلة ووسائلها.
وختاما أحمد الله على منه وإنعامه وتوفيقه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


([1]) لسان العرب (35/3185)
([2]) معجم مقاييس اللغة (4/281)
([3]) مجموعة رسائل ابن عابدين (2/114)
([4]) التعريفات للجرجاني (ص 126)
([5]) شرح تنقيح الفصول (352)
([6]) التقرير والتحبير (1/340)
([7]) مجموعة رسائل ابن عابدين (2/114)
([8]) مجموعة رسائل ابن عابدين (2/115 فما بعدها) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 127 فما بعدها)   
([9]) مجموع الفتاوى (35/350-351)
([10]) (5/119)
([11]) قال العلائي : و لم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا و لا سند ضعيف بعد طول البحث و كثرة الكشف و السؤال و إنما هو من قول عبد الله بن مسعود موقوفا عليه أخرجه أحمد في مسنده.ينظر السلسلة الضعيفة (533)
([12]) البخاري (5364) ومسلم (1714)
([13]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/61)
([14]) البخاري (2240)
([15]) البخاري (448)
([16])القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير(1/298)
([17]) الأشباه والنظائر (ص130)
([18]) الأشباه والنظائر (ص130)

([19]) الموافقات (2/495)
([20]) موسوعة القواعد الفقهية (7/338) شرح القواعد الفقهية للزرقا (233)
([21]) القواعد الفقهية مع الشرح الموجز (ص 50)
([22]) الأشباه والنظائر (136)
([23]) شرح تنقيح الفصول (165)شرح القواعد الفقهية للزرقا (220) موسوعة القواعد الفقهية (7/401)
([24]) الأشباه والنظائر(136)
([25]) مجموعة رسائل ابن عابدين (2/115)
([26]) البخاري(1900)ومسلم(1080)
([27]) الأشباه والنظائر(ص131)
([28]) أعلام الموقعين (3/3)مجموعة رسائل ابن عابدين(2/125) شرح القواعد الفقهية للزرقا(228)القواعد الفقهية مع الشرح الموجز للدعاس(56)موسوعة القواعد الفقهية البرنو(8/725)
([29]) إغاثة اللهفان (320-321)
([30]) مجموعة رسائل ابن عابدين(2/125)
([31]) الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي(4/111)
([32]) الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي(5/556)
([33]) الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي(7/250)
([34]) الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي(7/277)
([35])الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي(7/500)
([36]) الأشباه والنظائر للسيوطي(ص 127)
([37]) فتح الباري لابن حجر(4/474)
([38]) الفروق للقرافي(1/307) التقرير والتحبير(1/340)
([39]) الفروق للقرافي(1/310)مجموعة رسائل ابن عابدين(2/114-115)
([40]) شرح الكوكب المنير (3/387) المسودة(1/123)التقرير والتحبير ( 1/ /340) المستصفى (3/329)المحصول(3/131)الإحكام للآمدي(2/407)شرح تنقيح الفصول(165) البحر المحيط (3/391) إيضاح المحصول من برهان الأصول (331)نهاية السول(217) قواطع الأدلة(1/392) الردود والنقود(2/271فما بعدها)الإبهاج شرح المنهاج(2/181)العدة(2/593( شرح العضد على مختصر المنتهى(3/75)إرشاد الفحول(2/697)
([41]) ينظر : التقرير والتحبير(1/340)نهاية السول(219)
([42]) البحر المحيط، بتصرف(3/393 فما بعدها)
([43]) الإحكام للآمدي(2/407 فما بعدها)
([44]) إرشاد الفحول(2/699)
([45]) الفقه الإسلامي وأدلته(3/398)
([46]) المرجع السابق(4/36)
([47]) المرجع السابق(5/556)
([48]) الفقه الإسلامي وأدلته(6/638)
([49]) المرجع السابق (7/307)
([50]) المادة 251 من مجلة الأحكام العدلية ، لجنة مكونة من عدة علماء وفقهاء في الخلافة العثمانية، الناشر: نور محمد، كارخانه تجارتِ كتب، آرام باغ،كراتشي
([51]) المادتين 353 و354 من المجلة السابقة.
([52]) المادة 527 من المجلة السابقة
([53]) المادة 555 من المرجع السابق.
([54]) المادة 829 من المرجع السابق.
التعليقات
0 التعليقات
يتم التشغيل بواسطة Blogger.