جديد الموقع
recent

الكبر

عبد الجليل مبرور
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على النبيِّ الأمين، وعلى آله وصحْبه أجمعين.

أما بعدُ:
فإنَّ الأخلاق الدنيئة لا بدَّ لها من مَنْبت تنمو فيه، وتتشعَّب في قلْب الإنسان بحسب نصيبه مِن تلك الأخلاق، والكِبر من أصول هذه الأخلاق المتردية، فهو يشبُّ في قلْب الإنسان، فيظن أنَّه على خير، وفي نعيمٍ لا يَبلى ولا يزول، فيبدأ يدبُّ داءُ الحسد في قلْبه، ويفرخ بعدَ ذلك الغِيبة والنميمة إلى أن تَصير لهذه الشجرة أغصانًا تنجلِي في شكل أعمال، فيصير يترفَّع عن الناس وهو أحقَرُهم، ويترفَّع عن الضعفاء وهو أضعَفُهم، ويُزكِّي نفسه ويمدحها، وهو أخبثهم نفسًا، ويتباهَى بنَسَبه ولعلَّ في نسَبه سفاحًا، يتباهَى بماله وهو عاريةٌ في يده، ويفتخِر بجماله، وقد تأكله النار، ويتباهَى بالقوَّة وهو أضعفُ مِن بعوضة، بل لو سلَبَه البعوض شيئًا لن يستنقذَه منه، ويتباهَى بالأتباع، وينسى أن الله يُعزُّ مَن يشاء، ويُذلُّ مَن يشاء، قد جعَل الله ظلمة العجب تغطِّي ضياء القلْب، وحجابًا يحجب صاحبَه عن الجنان، ويُوجِب لعنةَ الرحمن، نسأل الله أن يُعيذَنا من شرِّه، إنَّه سميعٌ قريب، مجيبُ الدعاء.

وسنتعرَّض - إنْ شاء الله - في بحْثنا هذا إلى: (تعريفه - أقسامه - حُكمه - خطورته - صور الكبر - أقوال السلف في الكبر- أسبابه والعلاج).

1- تعريف الكبر:
لغة: جاء في "غريب القرآن"؛ للراغب الأصبهاني (ص: 421): "الكِبر والتكبُّر والاستكبار تتقارَب، فالكِبر الحالة التي يتخصَّص بها الإنسانُ مِن إعجابه بنفسِه، وذلك أن يرى الإنسانُ نفسه أكبرَ مِن غيره، وأعظمُ التكبُّرِ التكبُّرُ على الله بالامتناع مِن قَبول الحق، والإذعان له بالعبادة.

والاستكبار يقال على وجهين:
أحدهما: أن يتحرَّى الإنسانُ ويطلب أن يصيرَ كبيرًا، وذلك متى كان على ما يجب، وفي المكان الذي يجب، وفي الوقتِ الذي يجب، فمحمودٌ.
والثاني: أن يتشبَّع فيُظهر مِن نفسه ما ليس له، وهذا هو المذمومُ، وعلى هذا ما ورَد في القرآن".

وقال في (ص: 422): "والتكبُّر يقال على وجهين: أحدهما: أن تكونَ الأفعال الحسنة كثيرةً في الحقيقة، وزائدة على محاسن غيره، وعلى هذا وُصِف الله تعالى بالتكبُّر، قال: ﴿ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ﴾ [الحشر: 23]، والثاني: أن يكون متكلِّفًا لذلك متشبِّعًا، وذلك في عامَّة الناس، نحو قوله: ﴿ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر: 72]"؛ ا.هـ.

الذي مرَّ مِن الاصطلاحي أيضًا!
جاء في "تُحفة الأحوذي" (6/135): "وقال الغزالي: الكِبر على قسمين: فإذا ظَهر على الجوارح يقال: تكبَّر، وإذا لم يظهرْ يقال: في نفسه كِبْر، فالأصْل هو الخُلُق في النفس، وهو الاسترواح والرُّكون إلى رؤيةِ النفْس فوقَ التكبُّر عليه، فإنَّ الكبر يستدعي متكبَّرًا عليه؛ ليرى نفسه فوقَه في صِفات الكمال ومتَكَبِّرًا به، وبه يُفصَل الكِبر عن العُجْب، فإن العُجب لا يستدعي غيرَ المعجب به، بل لو لَم يُخْلَقْ إلا وحْدَه تصوَّر أن يكون معجبًا، ولا يتصوَّر أن يكون متكبِّرًا"؛ ا.هـ.

2- أقسام الكبر:
الكِبْر قسمان: كِبْر هو كُفر، وآخَر هو معصية، فالكُفر هو ما كان المتكبَّرُ عليه هو الله ورسوله، أو كتابه، أما المعصية فما دون ذلك، قال القرطبي في "المفهم" (1/286): "لَمَّا تقرَّر أنَّ الكِبر يستدعي متكبَّرًا عليه، فالمتكبَّر عليه إن كان هو اللهَ تعالى، أو رسولَه، أو الحقَّ الذي جاءتْ به رسلُه، فذلك الكِبر كفْرٌ، وإن كان غير ذلك، فذلك الكِبْر معصية وكبيرة".

3- حكم الكِبر:
يقول ابن القيِّم في "الفوائد" (ص: 143): "أصْل الأخلاق المذمومة كلِّها الكِبرُ والمهانة والدناءة، وأصْل الأخلاق المحمودة كلِّها الخشوعُ وعلو الهِمَّة، فالفخر والبَطر، والأَشَر والعُجب، والحسد والبغي، والخُيلاء والظلم، والقسوة والتجبُّر، والإعراض وإباء قَبول النصيحة، والاستئثار، وطلب العلو، وحب الجاه والرِّئاسة، وأن يُحمَد بما لم يفعلْ، وأمثال ذلك، كلها ناشئةٌ مِن الكِبر"؛ا.هـ.

وقال في مكان آخر (ص: 157- 159): "أرْكان الكفر أربعة: الكِبر والحسد، والغضب والشهوة: فالكبر يمنعُه الانقياد، والحسَد يمنعه قَبول النصيحة وبذْلها، والغَضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرُّغَ للعبادة، فإذا انهدم ركنُ الكِبر سهُل عليه الانقياد، وإذا انهدَم رُكن الحسَد سهُل عليه قَبول النُّصح وبذله، وإذا انهدَم رُكن الغضب سهُل عليه العدل والتواضُع، وإذا انهدَم رُكن الشهوة سهُل عليه الصبر والعَفاف والعبادة"؛ا.هـ.

4- خطورة الكبر:
إنَّ الكِبر خُلُقٌ مدفون في قلْب المرء، يجليه داءُ العُجْب، فلطالما اقترن هذان الداءان في قلْب المتكبِّر فأهلكاه، وتركَا قلْبه قاحِلاً من الخير، لا ينبت إلاَّ النِّفاق والفُسوق والعصيان، فالمتكبِّر لا يرَى مع نفسه أحدًا، ولا يملأ عينَه أحدٌ.

والكِبْر يُهلِك الناس بشتَّى أصنافهم، عالِمهم وجاهلهم، زاهدهم وفاسقهم، فحُقَّ أن يوجِب اللعنة للمتَّصف به، كما هو شأنُ إبليس رئيس المتكبِّرين، فمن تكبَّر فهو من حزبه، بل هو من جُنْده، إنْ أمرَه إبليس يُطِع، وإن نهاه ينته، فاستحقَّ صاحبُه الخلود في النار؛ قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يدخل الجنةَ مَن كان في قلبه مثقالُ ذرَّة من كِبْر، ولا يدخل النار مَن كان في قلْبه مثقالُ ذرَّة من إيمان))، قال: فقال رجلٌ: إنه يعجبني أن يكون ثوبي حسنًا، ونعلي حسنًا، قال: ((إنَّ الله يحبُّ الجمال، ولكن الكِبْر مَن بَطَر الحق، وغَمَص الناس))؛ رواه مسلم (19) والترمذي (1999).

ووَبال الكِبر لا يقتصر على هذا، بل يكون عن رسولِ الله من المُبعَدين يومَ القيامة؛ قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنَكم أخلاقًا، وإنَّ مِن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يومَ القيامة الثرثارون والمتشدِّقون والمتفيهقون))، قالوا: يا رسولَ الله، قد علمنا الثرثارين والمتشدّقين، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبِّرون)).
رواه الترمذي (2018)، وقال: وفي الباب عن أبي هريرة، هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِن هذا الوجه.

وعن حارثةَ بن وهب - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ألاَ أُخبركم بأهلِ النار؟ كل عُتلٍّ جوَّاظ مستكبِر))، والعتل: الغليظ الجافي، والجواظ: الجموع المنوع؛ رواه البخاري (4918) ومسلم (2853).

وعن سُراقةَ بن مالك بن جُعْشُم - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يا سُراقةُ، ألاَ أخبرك بأهلِ الجنة وأهلِ النار؟))، قلتُ: بلى يا رسولَ الله، قال: أمَّا أهل النار، فكلُّ جعظري جوَّاظ مستكبر، وأمَّا أهل الجنة، فالضعفاء المغلوبون))؛ صحيح الترغيب والترهيب (2903).

وعن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - عنِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((احتجَّتِ الجنة والنار، فقالت النار: فيَّ الجبَّارون والمتكبِّرون، وقالت الجنة: فيَّ ضُعفاء المسلمين ومساكينهم، فقضَى الله بينهما: إنَّك الجَنَّة رحمتي، أرْحم بك مَن أشاء، وإنك النار عذابي، أُعذِّب بك مَن أشاء، ولكليكما عليَّ ملؤها))؛ رواه مسلم (2847)

وما ذلك إلاَّ لأنَّ المتكبِّر قد نازع اللهَ في صفته التي لا تنبغي إلا له - جلَّ وعلا - قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قال الله - تبارك وتعالى -: الكبرياء رِدائي، والعَظمة إِزاري، فمَن نازعني واحدًا منهما، قذفتُه في النار))؛ رواه أبو داود (4090)، ابن ماجه (4174) وصححه الألباني في صحيح الجامع (4311)،

وعن فضالة بن عُبَيد - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثة لا يُسأل عنهم: رجلٌ نازع الله رِداءَه، فإنَّ رداءه الكبر، وإزاره العِز، ورجلٌ في شكٍّ مِن أمر الله، والقنوط مِن رحمته))؛ صحيح الترغيب والترهيب (2900).

وجعَل الله حشْرَ المتكبِّرين مثل الذرِّ، مقهورين مذلولين، جزاءً لهم على علوِّهم في الأرض، فعن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جدِّه - رضي الله عنهم - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يُحشَر المتكبِّرون يومَ القيامة أمثالَ الذرِّ في صور الرِّجال، يَغْشاهم الذلُّ مِن كلِّ مكان، يُساقون إلى سجْن في جهنمَ يقال له: بولس، تعلوهم نارُ الأنيار، يُسقَوْن مِن عصارة أهل النار - طِينة الخبال))؛ حسَّنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (8040).

وحرَّم الله كلَّ أشكال الاختيال والتفاخُر، وجعَلَها موجبةً للعذاب؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: (بينما رجلٌ ممَّن كان قبلَكم يجرُّ إزارَه من الخيلاء، خُسِف به، فهو يَتجَلْجَل في الأرْض إلى يومِ القيامة))؛ رواه البخاري (3485).

وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بيْنَا رجلٌ ممن كان قبلَكم خرَج في بُرْدين أخضرين يختال فيهما، أمَرَ الله - عزَّ وجلَّ - الأرْض فأخذتْه، فهو يتجلجل فيها إلى يومِ القيامة))؛ صحيح الترغيب والترهيب (2914).

فيوم القيامة لا ينفع جمالٌ، ولا قوَّة، ولا أَنْساب، بل مَن أتى اللهَ بقلْبٍ سليم فقد فاز، ومَن تجبَّر وتكبَّر كسرَه الله يوم القيامة، وأذاقه ألوانَ الذلِّ والهوان؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لينتهينَّ أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فَحْم جهنم، أو ليكوننَّ أهون على الله - عزَّ وجلَّ - مِن الجُعْل الذي يُدهْدِهُ الخراءَ بأنفه، إنَّ الله أذْهب عنكم عبيةَ الجاهلية وفخرَها بالآباء، إنما هو مؤمِن تقيّ، وفاجِر شقيّ، الناس بنو آدمَ، وآدمُ خُلِق مِن تراب))؛ صحيح الجامع (4542).

5- صور الكبر:
إنَّ للكِبر صُورًا كثيرة، يصعُب حصرُها، ومنها:
ردُّ الحقِّ، وعدم الإذعان والانقياد له؛ قال - تعالى -: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]، وقال - تعالى -: ﴿ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ﴾ [المؤمنون: 47]، وقال - تعالى -: ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ [إبراهيم: 10].

التكبُّر على الله - جل وعلا - مثل ما يُحكَى عن النمرود بن كنعان: أنَّه كان يحدِّث نفسه عن قتال ملك السماء، وكذلك قارون، وتكبُّر فرعون عندَ ادعائه الألوهية؛ قال - تعالى -:﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 38 - 39].

حسَدُ الناس على النِّعم التي حبَاهم الله بها، مثل حسد إبليس لآدمَ - عليه السلام - قال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34].

مخالفةُ الحقِّ لدافع الهوى؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87].

الكذِب والمكر والخيانة؛ مخالفةً للحق، واستكبارًا عليه؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ [فاطر: 42 - 43].

التولِّي عن الحقِّ والصدود عنه، كما وقَع لنبيِّ الله نوح - عليه السلام - مع قومه؛ قال - تعالى -: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ [نوح: 5 - 7].

الإعجابُ بالقوَّة كقومِ عاد؛ قال - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [فصلت: 15].

استضعاف الناس، والتأثير عليهم؛ كي يَكْفروا بالله تعالى؛ قال - تعالى -: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [الأعراف: 75 -76]، وقال - تعالى -:﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [سبأ: 32 - 33]، قال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ﴾ [غافر: 47 -48].

الاغترار بالعمل، وأنَّ الإنسان ما يعمله هو عيْنُ الصواب دون مبالاة منه إنْ وافَق الشرع أو لا؛ قال - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [النحل: 28 - 29].

الجِدال في الدِّين بغيْر عِلم؛ كي لا يظهر المرءُ أنه جاهِل؛ قال - تعالى -:﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ [غافر: 35].

اتِّباع سُبل الظلم والغَي، والجَوْر والكذب؛ قال - تعالى -: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوا كُلَّ آَيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 146].

الاختيال في المِشية واللِّباس؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴾ [الإسراء: 37 - 38]، وقال - تعالى -: ﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18].

النِّفاق، قال - تعالى -: ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾ [النحل: 23].

الاستعلاء في الأرْض؛ قال - تعالى -: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83].

محبَّة المرء أن يقومَ الناس له في مجلسِهم؛ قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أحبَّ أن يتمثَّل له الرجالُ قِيامًا، فليتبوأْ مقعدَه من النار))؛ رواه أبو داود في الأدب، باب (165)، رقم (5229).

6- أقوال السَّلف في الكِبر:
وعن أبي سلمةَ بن عبدالرحمن بن عوْف قال: "الْتقَى عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - على المروة، فتحدَّثَا، ثم مضَى عبدالله بن عمرو، وبقي عبدالله بن عمر يبكي، فقال له رجل: ما يبكيك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: هذا؛ يعني: عبدالله بن عمرو، زعَم أنه سمِعَ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن كان في قلْبِه مثقالُ حبَّة مِن خرْدل مِن كِبْر، كبَّه الله على وجْهِه في النار))؛ رواه أحمد (2/215)، وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2909).

وعن طارق قال: "خرَج عمر - رضي الله عنه - إلى الشام ومعنا أبو عبيدة، فأتَوْا على مخاضةٍ وعمرُ على ناقةٍ له، فنزل وخلَع خُفَّيْه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزِمام ناقته فخاض، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا؟! ما يسرُّني أنَّ أهل البلد استشْرَفوك، فقال: أَوَّه! ولو يقلْ ذا غيرُك أبا عبيدة، جعلتُه نَكالاً لأمَّة محمَّد، إنَّا كنَّا أذلَّ قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلُب العِزَّ بغيْر ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله"؛ رواه الحاكم (1/130)، وقال: صحيح على شرطهما، وصحَّحه الألباني في "الصحيحة" (51).

وجاء في "نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء" (ص657): "سُئِل ابن المبارك: ما الكِبْر؟ قال: أنْ تزدريَ الناس، فسألتُه عن العُجْب؟ قال: أنْ ترَى أنَّ عندك شيئًا ليس عندَ غيرك، لا أعلم في المصلِّين شيئًا شرًّا من العُجب".

وفي (ص: 411): "عن محمَّد بن عليٍّ، قال: ما دخَل على امرئ مِنَ الكِبْر شيءٌ إلا نقَص مِن عقله مقدارُ ذلك".

وفي (ص: 339): "عنِ الأحنف بن قيس: عجبتُ لمَن يجري في مجرَى البول مرَّتين كيْف يتكبَّر؟!".

وفي (ص: 433): "رأى مُطرِّفُ بن الشِّخِّير يَزيدَ بن المهلب يسْحَب حُلَّته، فقال له: إنَّ هذه مِشيةٌ يبغضها الله، قال: أوَ ما تعرفني؟ قال: بلى، أوَّلُك نُطفة مذرة، وآخِرُك جِيفة قذرة، وأنت بيْن ذلك تحمل العذرة".

وفي (ص: 477): "مرَّ المهلب على مالكِ بن دِينار متبخترًا، فقال: أمَا علمت أنها مِشيةٌ يَكْرهها الله إلا بيْن الصفَّيْن؟ فقال المهلب: أمَا تعرفني؟ قال: بلى، أوَّلك نُطْفة مذرة، وآخِرتُك جيفة قذرة، وأنت فيما بيْن ذلك تحمِل العذرة، فانْكَسر، وقال: الآن عرفتني حقَّ المعرفة".

وفي (ص: 605): "قال أيوب العطَّار: سمعتُ بشر بن الحارث - رحمه الله - يقول: حدَّثَنا، ثم قال: أستغفِرُ الله، إنَّ لذِكْر الإسناد في القلْبِ خيلاءً".

وفي (ص: 878): "قال ابن يونس: لم يكن عندَنا بحمد الله كما قال النسائي، ولم يكن له آفةٌ غير الكِبْر"؛ يعني بذلك أحمدَ بن صالح".

وفي (ص: 1160): قال منذر بن سعيد البلوطي - وكان خطيبا مفوَّهًا، وخطَب يومًا فأعجبتْه نفسه، فقال: حتَّى متى أعِظ ولا أتَّعِظ، وأزْجُر ولا أزْدَجِر، أدلُّ على الطريق المستدلِّين، وأبْقى مقيمًا مع الحائرين، كلاَّ، إنَّ هذا لهو البلاءُ المبين، اللهمَّ فرغِّبْني لما خلقتني له، ولا تُشغلني بما تكلفتَ لي به".

وفي "مختصر منهاج القاصدين" (ص: 271): "قال سفيان بن عُيَيْنة: مَن كانت معصيتُه في شهوة، فأرجو له التوبة، فإنَّ آدم - عليه السلام - عصَى مشتهيًا فغُفِر له، فإذا كانتْ معصيتُه من كِبْر، فأخْشَى عليه اللَّعْنة، فإنَّ إبليس عصَى مستكبرًا فلُعِن"؛ ا.هـ.

وفي "أدب الدنيا والدين"؛ للماوردي (246 - 247 -252) بتصرُّف يسير: "وقد وصَف بعض الشعراء الإنسان فقال:
يَا مُظْهِرَ الْكِبْرِ إعْجَابًا بِصُورَتِهِ
انْظُرْ خَلاَكَ فَإِنَّ النَّتْنَ تَثْرِيبُ
لَوْ فَكَّرَ النَّاسُ فِيمَا فِي بُطُونِهِمُ
مَا اسْتَشْعَرَ الْكِبْرَ شُبَّانٌ وَلاَ شِيبُ
هَلْ فِي ابْنِ آدَمَ مِثْلُ الرَّأْسِ مَكْرُمَةً
وَهْوَ بِخَمْسٍ مِنْ الْأَقْذَارِ مَضْرُوبُ
أَنْفٌ يَسِيلُ وَأُذْنٌ رِيحُهَا سَهِكٌ
وَالْعَيْنُ مُرْفَضَّةٌ وَالثَّغْرُ مَلْعُوبُ
يَا ابْنَ التُّرَابِ وَمَأْكُولَ التُّرَابِ غَدًا
أَقْصِرْ فَإِنَّكَ مَأْكُولٌ وَمَشْرُوبُ

وقال محمَّدُ بن علي: لا يَنبغي للشريف أن يرَى شيئًا من الدنيا لنفسه خطيرًا، فيكون بها نابهًا.
وقال ابن السمَّاك لعيسى بن موسى: تواضعُك في شرفِك أشرفُ لك من شرفِك.

رُوي عن عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -: أنَّه نادَى: الصلاة جامعة، فلمَّا اجتمع الناس صعِد المنبر، فحمِد الله وأثْنى عليه، وصلَّى على نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال: "أيُّها الناس، لقد رأيتُني أرْعى على خالاتٍ لي من بني مخزوم، فيقبض لي القبضة مِنَ التمر والزبيب، فأظلُّ اليوم وأيَّ يوم".

فقال له عبدالرحمن بن عوف: والله يا أمير المؤمنين، ما زدتَ على أن قصرتَ بنفسك! فقال عمر - رضي الله عنه -: ويْحَك يا ابن عوف! إني خلوتُ فحدَّثَتْني نفسي، فقالت: أنت أميرُ المؤمنين، فمَن ذا أفضلُ منك، فأردتُ أن أعرِّفها نفسها.

وقال بعضُ الحُكماء: مَن رضِي أن يُمدَح بما ليس فيه، فقد أمكن الساخِرَ منه.
وقال بعضُ الحُكماء: مَن برِئ من ثلاث، نال ثلاثًا: مَن برِئ من السَّرَف نال العِز، ومَن برِئ من البُخل نال الشَّرف، ومَن بَرِئ من الكِبْر نال الكرامة.

وقال مُصعَب بن الزبير: التواضُعُ مصايدُ الشَّرف.

وقيل في منثور الحِكم: مَن دام تواضعُه كثُر صديقه.

وقد قال بعضُ الحكماء: في تقلُّب الأحوال تُعرَف جواهرُ الرِّجال.

وقال الفَضْل بن سَهْل: مَن كانتْ ولايته فوقَ قدره تَكبَّر لها، ومَن كانت ولايته دون قدره تواضَع لها.

وقال بعضُ البُلغاء: الناس في الولاية رجلان: رجلٌ يُجِلُّ العمل بفَضْله ومروءته، ورجل يجلُّ بالعمل لنَقْصه ودناءته، فمَن جلَّ عن عمله ازداد به تواضعًا وبِشرًا، ومَن جلَّ عنه عملُه ازداد به تجبُّرًا وتكبُّرًا"؛ ا.هـ.

7- أسباب الكبر والعلاج:
إن من أسباب الكبر:
الجهْل بالله، وعلاجه: إعْمارُ القلْب بالله، وأنَّ الله على كلِّ شيء قدير، يُعِزُّ مَن يشاء، ويُذلُّ مَن يشاء، وهو على كل شيء قدير.
اغترار الإنسان بماله وجاهِه وقوَّته، وعلاجه: الإيمانُ يقينًا بأنَّ المال يفنَى، والجسم يَبلَى، والدنيا إلى زوال.
طُغيان الطاعة، وعلاجه: أنْ يعلمَ أنَّ العِلم إمَّا حُجَّة له أو عليه، وأنَّ العمل قنطرةٌ إمَّا للجَنَّة، وإمَّا للنار، وأنَّ السعيد مَن جُنِّب الفتن، وأنَّ التوفيق توفيقُ الله، وأنَّ القلوب بيْن أصبعين من أصابعِ الرحمن.
التفاخُر بالأنساب، وعلاجه: أن يعلمَ أنَّ مَنْ أبْطأ به عملُه فلن يُسرعَ به نسَبُه.
الإعجاب بالجمال، وعِلاجه: أنَّ الجمال جمالُ الرُّوح، وأنَّه لا خيرَ في جمالٍ مصيرُه إلى النار.

وختامًا:
نسأل الله أن يُعيذَنا مِن شرِّ الكِبر، ونبرأ إلى الله منه ومِن أهله، ونسأل الله أن يَبعثَنا في زُمرة خير المتواضعين، سيِّدنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات
0 التعليقات
يتم التشغيل بواسطة Blogger.