جديد الموقع
recent

بعض أحكام صلاة الجمعة

عبد الجليل مبرور
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده.

أما بعدُ:
فهذا بحث يتعلق ببعض أحكام صلاة الجمعة، وقد قسَّمتُه إلى مباحث كما سيأتي، فنقول - وبالله التوفيق -:
الفصل الأول: فرضية صلاة الجمعة.
المبحث الأول: وقت وجوب السعي إليها.
المبحث الثاني: وقت استحباب السعي إليها.

الفصل الثاني: شروط وجوب الجمعة.
المبحث الأول: شرط الإقامة.
المبحث الثاني: شرط القرب من موضعها.
المطلب الأول: وجوبها على أهل المصر والقرى.
المطلب الثاني: اختلاف الجمهور في حد القرب من المصر.

الفصل الثالث: كيفية الجمعة:
المبحث الأول: أداؤها في الزحام.


الفصل الأول: فرضية صلاة الجمعة

قد اختلف العلماء في وجوبها عَينًا أم كفاية:
فقيل: إنَّ صلاةَ الجمعة فرْضُ عين، يجب على كلِّ مسلم مستوفٍ شروطَها، ويَكفر جاحد فرضيَّتها؛ لأنَّها من المعلوم من الدِّين بالضرورة، وهو قول جماهير الأحناف[1]، والمالكية[2]، والشافعية[3]، والحنابلة[4]، والظاهرية[5]، بل حُكِي إجماعًا.

وقيل: إنَّها من فُروض الكفايات؛ حَكاه الخَطَّابي[6]، وقال: "قال أكثر الفقهاء: هي من فروض الكفايات"، وذكَر ما يدلُّ على أنَّ ذلك قولٌ للشافعي، وحكاه المَرعَشيُّ عن قوله القديم.

وقد أزال النَّوويُّ هذا الإشكال، فقال: "أمَّا حكم المسألة فالجُمعة فرْض عين على كلِّ مكلَّف غير أصحاب الأعذار والنَّقص المَذْكورين، هذا هو المذهب، وهو المنصوص للشافعي في كتُبه، وقطَع به الأصحاب في جميع الطُّرق، إلاَّ ما حكاه القاضي أبو الطيِّب في تعليقه، وصاحب الشَّامل وغيرهما عن بعض الأصحاب أنَّه غلط، فقال: هي فرض كفاية، قالوا: وسبب غلطه أنَّ الشافعي قال: مَن وجبَتْ عليه الجمعة وجبت عليه صلاة العيدَين، قالوا: وغلط من فهمه؛ لأنَّ مراد الشافعي مَن خُوطِب بالجمعة وجوبًا، خوطب بالعيدين متأكدًا.

واتفق القاضي أبو الطيِّب وسائرُ مَن حَكى هذا الوجه على غلط قائله، قال القاضي أبو إسحاق المَرْوَزيُّ: لا يحلُّ أن يُحكى هذا عن الشافعي، ولا يختلف أنَّ مذهب الشافعي أنَّ الجمعة فرض عين، ونقل ابنُ المُنذر في كتابَيْه كتاب "الإجماع" و"الإشراف" إجماعَ المسلمين على وجوب الجمعة، ودليل وجوبها ما سبَق، وذَكَر الشيخ أبو حامد في تعليقه: "إن الجمعة فُرِضت بمكَّة قبل الهجرة"، وفيما قاله نظَرٌ[7].

وعبارة الشافعي في "الأُمِّ" تؤيِّد ما قاله النَّووي؛ حيث قال: "ومَن كان مُقيمًا ببلد تجب فيه الجمعة، مِن بالغٍ حُرٍّ لا عذر له، وجبت عليه الجمعة"[8].

وقد توهَّم البعض أنَّ مالكًا - رحمه الله - يقول بِسُنِّيتها، وعدَّه ابن رشد رواية شاذَّة عن مالك[9].

غير أنَّ ابن عبدالبرِّ قد أثبَتَها ثم بيَّن مقصودَ مالك بقوله: "سُنَّة"، فقال:
"فإنْ قال بعضُ أهل الجهل: إنَّه رَوى ابن وهب عن مالك أنَّ شهودها سُنَّة، فالجواب عن ذلك: أنَّ شهودها سنَّة على أهل القرى الذين اختَلف السَّلَف والخَلَف في إيجاب الجمعة عليهم، وأمَّا أهل الأمصار فلا، ونحن نُورِد ذلك على نَصَّه، والرِّواية في سماع ابن وهب عن مالك قال: "قال لي مالكٌ: كلُّ قرية متَّصلة البيوت وفيها جماعة من المسلمين، فينبغي لهم أن يُجمعوا إذا كان إمامُهم يأمرهم أن يُجمعوا أو ليؤمِّروا رجلاً، فيجمع بهم؛ لأنَّ الجمعة سُنَّة"؛ هذه رواية ابن وهب التي شبه بها على مَن لا علم له، ولم يعلم أنَّ مِن أهل العلم جماعةً يقولون: إنَّه لا جمعة إلاَّ في مصر جامع.

وفي قول مالك في رواية ابن وهب هذه إذا كان إمامهم يأمرهم - دليلٌ على أنَّ وجوب الجمعة عنده في القرية الكبيرة التي ليست بمِصْر إنما هو اجتهاد منه أنَّها سُنَّة، وتشبيه لها بالمصر المجمع على إيجاب الجمعة فيه.

ومسائل الاجتهاد لا تَقْوى قوَّة توجِب القطع عليها، وقد أخبرتُك بالإجماع القاطع للعذر، وعليه جماعة فقهاء الأمصار؛ فلهذا أطلَق مالكٌ أنَّها سُنَّة في قرى البادية؛ لِمَا رأى من العمل بها ببلده، وإن كان فيها خلافٌ معلوم عنده وعند غيره.

وقد ذكَرْنا الاختلاف في التجميع في القُرى الصِّغار والكبار في "التَّمهيد".

على أنه يحتمل أن يكونَ قولُ مالك سُنَّة؛ أيْ: طريقة الشَّريعة التي سلَكها المسلمون ولم يختلفوا فيها"[10]، وهذا الذي ذهب إليه القاضي عياض[11]، وابن العربي[12].

أدلة القائلين بأنها فرض عَيْن:
قالوا: قد ثبتَتْ فرضيَّتها بالكتاب والسُّنة والإجماع.

الدليل الأول:
من الكتاب:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ[13]، وقد قيلَ: إنَّ ذِكْر الله هو صلاة الجمعة، وقيل: هو الخطبة، وكِلاَ التفسيرين مُلْزِم وحُجَّة، فالسعي لحضور الخطبة يستلزم حضور الصَّلاة، بل شُرِع لأجل الصلاة، ومن جهة أخرى فذِكْر الله يشمل الصَّلاة والخطبة.

ولأنَّ وجوب السَّعي إلى الشَّرط، وهو مقصود لغيره، فرْعُ افتراض المشروط الذي هو الصلاة.

وقد نهى الله - عزَّ وجلَّ - عن مباحٍ، وهو البيع؛ سدًّا لِذَريعة الاشتغال عنها، فدلَّ ذلك على أنها فرض.

والمراد بقوله - جلَّ وعلا -: ﴿فَاسْعَوْا﴾ هو الذَّهاب؛ لأنَّه قد ورد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يقرؤُها: "فامضوا إلى ذِكْر الله"[14].

قال الشافعي: ومعقول أنَّ السعي في هذا الموضع العملُ لا السعي على الأقدام، قال الله تعالى: ﴿إنَّ سَعْيكُمْ لَشَتَّى[15]، وقال: ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان: 22]، وقال: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ [الإسراء: 19]، وقال: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، وقال: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ [البقرة: 205]، قال الشيخ: وقد رُوِي عن أبي ذرٍّ ما يؤكِّد هذا[16].

الدليل الثاني:
من السُّنة:
عن عبدالله بن مسعود أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لقوم يتخلَّفون عن الجمعة: ((لقد همَمْتُ أن آمر رجلاً يصلِّي بالناس، ثم أُحرِّق على رجال يتخلَّفون عن الجمعة بيوتَهم))[17].

وعن أبي الجعد الضَّمري وكانتْ له صُحبة، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوُنًا بها، طبَعَ الله على قلبه))[18].

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سَمِع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((نحن الآخِرون السَّابقون يوم القيامة، بَيْدَ أنَّهم أُوتوا الكتاب مِن قَبلنا، ثم هذا يَومهم الذي فُرِض عليهم، فاختَلَفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبَعٌ؛ اليهود غدًا، والنَّصارى بعدَ غد))[19].
قال ابن حجَر: أمَّا وجه الدلالة من الحديث فهو التَّعبير بالفرض؛ لأنَّه للإلزام[20].

عن طارق بن شهاب، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الجُمعة حقٌّ واجب على كلِّ مسْلِم في جماعة، إلاَّ أربعة؛ عبْدٌ مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض))[21].

عن حفصة، زوج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((رَواح الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلم))[22].

الدليل الثالث:
من الإجماع:
فنقله ابن عبدالبرِّ: "وإن كان الإجماعُ في فرْضِها يُغْني عمَّا سواه والحمد لله".
"وأجمع علماء الأمَّة أنَّ الجمعة فريضة على كلِّ حرٍّ بالغ، ذكَر، يُدْرِكه زوالُ الشَّمس في مصْرٍ من الأمصار، وهو مِن أهل المِصْر غير مسافر"[23].

قال ابن المُنذِر: "وأجمعوا على أنَّ الجمعة واجبة على الأحرار البالغين المُقيمين، الذين لا عُذر لهم".

وقال في "الإشراف": "وأجمع أهلُ العلم على وجوب صلاة الجمعة".

وقال أبو بكر ابن العربي: "الجمعة فرض بإجماع الأُمَّة".

وقال الكاساني: "والدَّليل على فرضية الجمعة: الكتاب، والسُّنة، وإجماع الأمة".

وقال ابن قدامة: "الأصل في فرض الجمعة الكتاب والسُّنة والإجماع".

وقال ابن عابدين في سياق الاستدلال على وجوبها: "وبالسُّنة والإجماع"؛ اهـ[24].

أدلة القائلين بأنها فرض كفاية:
الدليل الأول:
استدلوا بقوله - جلَّ وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: 9]، قالوا: قد وصف الله السَّعي إليها بأنَّه خير، فدلَّ ذلك على عدم فرضيَّتها عينًا.

وأُجيبِ عن هذا: بأنَّ وصف العمل بالخيريَّة لا يَنفي عنه الوجوب، وإنما كلُّ أمر مشروع فهو خير، سواءٌ كان مشروعًا شَرْع إيجاب أو شَرْع استحباب، وإلاَّ لزمهم أن يَصْرفوا هذا الأمر في قوله - جلَّ وعلا -: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النساء: 171].

فهل يقول عاقل: إن الانتهاء عن عقيدة التَّثليث فرْضُ كفاية، أو صرف إلى الكراهة؟
وقوله - جلَّ وعلا -: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 85].

فهل التَّطفيف والظُّلم والفساد في الأرض فرض كفاية؟ أو صَرْف إلى الكراهة؟
فإن قيل: النهي عن التثليث والتطفيف والظُّلم والفساد في الأرض قد ثبَت بأدلَّة أخرى خارجية، فالجواب أنَّ النهي عن تَرْك الجمعة قد ثبَت كذلك بأدلَّة خارجية، فصار هذا الصَّارف محْضَ تكَلُّف.

الدليل الثاني:
قالوا: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((نحن الآخِرون...)) يلزم من قبلنا وليس فيه أنه يلزمنا.
وأُجيبَ عن هذا بأن التقدير فُرِض عليهم وعلينا، فضَلُّوا وهُدِينا.

قالوا: حديث طارق بن شهاب مرسل.
وأجيب عن هذا بأنه مُرْسَل صحابي، وهو حُجَّة، وإلا فالحديث صحيح بشواهده كما سيأتي.

الدليل الثالث:
واستدلُّوا أيضًا بأدلَّة أخرى قد أُجيبَ عنها بأجوبة قد ذكَرها الشَّوكاني في "نَيْل الأوطار"، فقال: "وكذلك الاعتذار بأنَّ مسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان صغيرًا لا يتَّسع هو ورحبته لكلِّ المسلمين، وما كانت تُقام الجمعة في عهده - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأمره إلاَّ في مسجده، وقبائل العرب كانوا مُقيمين في نواحي المدينة مسْلِمين، ولم يُؤمَروا بالحضور - مدفوعٌ بأنَّ تخَلُّف المتخلِّفين عن الحضور بعد أمر الله تعالى به وأمْرِ رسوله، والتوعُّد الشديد لمن لم يحضر لا يكون حجة إلا على فَرْض تقريره - صلَّى الله عليه وسلَّم - للمتخلِّفين على تخَلُّفهم واختصاص الأوامر بمن حضَر جُمعته - صلَّى الله عليه وسلَّم - من المسْلِمين، وكلاهما باطل.

أمَّا الأول: فلا يصحُّ نسبة التقرير إليه بعد همِّه بإحراق المتخلِّفين عن الجمعة، وإخباره بالطَّبْع على قلوبهِم، وجَعْلها كقلوب المنافقين.

وأما الثاني: فمع كونه قصْرًا للخطابات العامَّة بدون برهان، تردُّه أيضًا تلك التوعُّدات للقطع بأنه لا معنى لتوعُّد الحاضرين ولتصريحه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأن ذلك الوعيد للمتخلِّفين، وضيق مسجده - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يدلُّ على عدم الفرضية إلاَّ على فرض أن الطَّلب مقصور على مقدار ما يتَّسع له من الناس، أو عدم إمكان إقامتها في البقاع التي خارجه وفي سائر البقاع، وكلاهما باطل.

أما الأول فظاهر، وأما الثاني فكذلك أيضًا؛ لإمكان إقامتها في تلك البقاع عقلاً وشرعًا، فلا يُقال: عدم أمره - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإقامتها في غير مسجده يدلُّ على عدم الوجوب؛ لأنَّا نقول: الطَّلب العامُّ يقتضي وجوب صلاة الجمعة على كلِّ فرد من أفراد المسلمين، ومَن لا يمكنه إقامتها في مسجده - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يمكنه الوفاء بما طلبه الشَّارع إلاَّ بإقامتها في غيره، وما لا يتمُّ الواجب إلا به واجبٌ كوجوبه، كما تقرَّر في الأصول"[25].

الراجح:
والذي يَظهر أنَّ الإجماع قائِمٌ على وجوبها على الإطلاق عينًا وكفاية، والأكثر على أنَّها فَرْض عين[26]، والحقُّ الذي لا مِرْية فيه أنَّها فرض واجب عينًا، وأنَّ تركها من أعظم أسباب الخِذْلان بالكلِّية، وإذا قلنا بأنَّ الجمعة فرض كفاية، وفرض الكفاية إذا قام به البعضُ سقَط عن الباقين - والبعض أقلُّ مِن عشرة - فهل حضور هذا البعض إظهارٌ لشعيرة هي من أهم شعائر المسلمين؟ أم أنه سينقض عُرى الإسلام عُروة عروة؟ وإذا قلنا بِسُنِّية صلاة الجماعة، وبأن الجمعة سُنَّة، فمَن يَعمُر مساجد الله إذًا؟!

المبْحَث الأول: وقت وجوب السعي إليها:
اختلفَ العلماء في وقت وجوب السعي إلى الجمعة، ومحَلُّ الخلاف فيمن مَنْزله قريب، أمَّا مَن مَنْزله بعيد فيلزمه السَّعي في وقت يدركها كلَّها؛ لأنَّه ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.

وقيل: يجب السَّعي إليها بالأذان الأول، وهو مذهب الأحناف[27].

وقيل: يجب السعي إليها بالأذان الثاني، وهو قول جمهور العلماء من المالكية[28]، والشافعية[29]، والحنابلة[30].

أدلة القائلين بوجوب السعي بالأذان الأول:
استدلوا بعُموم قَوْلِه - جلَّ وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: 9]، وبالأمر باتِّباع سنَّة الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وما دام عثمان - رضي الله عنه - قد سَنَّ ذلك، فنحن مأمورون باتِّباعه، فصار داخلاً في عموم النِّداء.

أدلة القائلين بِوُجُوب السعي بالأذان الثاني:
استدلوا بعموم قوله - جلَّ وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة: 9].

عن السَّائب بن يزيد: "كان النِّداء إذا صَعد الإمام على المنبر على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبي بكر وعمر، فلمَّا كان عثمان كَثُر الناس، فزاد النِّداء الثالث على الزَّوراء"[31]، والزَّوْراء موضع بالسُّوق بالمدينة.

قالوا: والنداء الذي كان على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو النِّداء عقيب جلوس الإمام على المنبر، فتعلَّق الحكم به دون غيره، ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل الزوال أو بعده؛ لأنَّ الله تعالى علَّقه على النداء، لا على الوقت، ولأنَّ المقصود بهذا إدراك الجمعة.

الراجح:
الذي يظهر أن الراجح هو قول الجمهور؛ لأنَّ عموم الآية قد قُيِّد بعملِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

المبحث الثاني: وقت استحباب السعي إليها:
اختلف العلماءُ في وقت استحباب السعي إلى الجمعة على قولين:
فقيل: يستحبُّ السعي إليها آخِرَ الساعة التي بعد زوال الشَّمس، ويكره بعد طلوع الشَّمس، وهو مذهب المالكية[32].

وقيل: يستحب السعي إليها أول النهار إلى الزوال، وهو مذهب الجمهور[33]، وهو الراجح.

مناقشة دليل مَن قال: يستحبُّ السَّعي إليها آخِرَ السَّاعة التي بعد زوال الشمس، ويُكره بعد طلوع الشمس:
استدلُّوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة، ثم راح، فكأنَّما قرَّب بدَنَة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قَرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثَّالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضَرَت الملائكة يستمعون الذِّكر))[34].

قالوا: بأنَّ الساعة تُطلَق على جزء من الزمان غير محدود، تقول: جئتُ ساعة كذا، ومن جهة أخرى فحقيقة الرَّواح إنما تكون بعد الزَّوال، والغُدوُّ يكون قبله، كما قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ [سبأ: 12].

وأجاب الجمهور عن هذا كما قال الحافظ: "وقد أنكر الأزهريُّ على مَن زعم أن الرَّواحَ لا يكون إلا بعد الزَّوال، ونُقل أنَّ العرب تقول: "راح" في جميع الأوقات بمعنى ذَهَب، قال: وهي لُغة أهل الحجاز، ونقل أبو عُبَيد في "الغَريبَيْن" نحْوَه.

قلتُ: وفيه ردٌّ على الزَّين بن المُنير؛ حيث أَطلق أنَّ الرَّواح لا يُستعمل في المُضي في أول النهار بوجْه، وحيث قال: إن استعمال الرواح بمعنى الغدوِّ لم يُسمع ولا ثبَت ما يدلُّ عليه.

ثم إنِّي لم أرَ التعبير بالرواح في شيء من طرُق هذا الحديث إلاَّ في رواية مالك هذه عن سُمَي، وقد رواه ابن جريج عن سُمي بلفظ: "غدا"، ورواه أبو سَلمة عن أبي هريرة بلفظ: ((المتعجِّل إلى الجمعة كالمُهْدِي بدنة))؛ الحديث، وصحَّحه ابن خزيمة، وفي حديث سَمُرة: "ضرَب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَثَل الجمعة في التَّبكير كناحر البدنةِ"؛ الحديث، أخرجه ابن ماجه، ولأبي داود من حديث عليٍّ مرفوعًا: ((إذا كان يوم الجمعة غدَت الشياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد، فتكتب: الرَّجل من ساعة، والرجل من ساعتين))؛ الحديث.

فدلَّ مجموعُ هذه الأحاديث على أن المراد بالرَّواح الذهاب، وقيل: النكتة في التعبير بالرَّواح الإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزَّوال، فيُسمَّى الذاهب إلى الجمعة رائحًا، وإن لم يجِئْ وقت الرَّواح، كما سُمِّي القاصد إلى مكة حاجًّا، وقد اشتدَّ إنكارُ أحمدَ وابنِ حبيب من المالكيَّة على ما نُقِل عن مالك من كراهية التَّبكير إلى الجمعة، وقال أحمد: هذا خلافُ حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[35].

قالوا: لو كان ذلك المُراد لاَخْتلف الأمر في اليوم الشَّاتي والصَّائف؛ لأنَّ النهار ينتهي في القِصَر إلى عشر ساعات، وفي الطُّول إلى أربع عشرة.

واستدلوا أيضًا بحديث أبي هريرة - رَضي الله عنه - قال: قال النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا كان يوم الجمعة وقفَتِ الملائكة على باب المسجد يَكتبون الأوَّلَ فالأوَّل، ومَثل المُهَجِّر كمَثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يُهدي بقرة، ثم كبشًا، ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا خرَج الإمام طَوَوْا صحُفَهم، ويستمعون الذِّكر))[36]، فجعل البدنة بالتَّهجير، والتهجير إنما هو الإتيان بالمهاجرة، وإنما يكون ذلك بعد الزَّوال.

وأجيب كما قال الحافظ: "وأجيب بأن المراد بالتَّهجير هنا التبكير، كما تقدم نقْلُه عن الخليل في المواقيت، وقال ابن المُنير في "الحاشية": يَحتمل أن يكون مُشتقًّا من الهِجِّير - بالكسر وتشديد الجيم - وهو مُلازمة ذِكْر الشيء، وقيل: هو من هَجْر المَنْزل، وهو ضعيف؛ لأن مصْدَره الهَجْر لا التَّهْجير.

وقال القرطبي: الحقُّ أن التهجير هنا من الهاجِرَة، وهو السَّير وقت الحَرِّ، وهو صالِحٌ لما قبل الزوال وبعده، فلا حُجَّة فيه لمالك، وقال التوربشتي: جعَل الوقت الذي يَرتفع فيه النهار ويأخذ الحرُّ في الازدياد من الهاجرة تغليبًا، بخلاف ما بعد زوال الشمس، فإنَّ الحرَّ يأخذ في الانحِطاط، ومما يدلُّ على استعمالهم التهجير في أول النهار ما أنشَد ابنُ الأعرابي في "نوادره" لبعض العرب: يُهَجِّرُونَ بَهَجِيرِ الفَجْرِ".

واحتجُّوا أيضًا بأنَّ الساعة لو لَم تَطُل لَزِم تساوي الآتين فيها، والأدلَّة تقتضي رجحان السَّابق، بخلاف ما إذا قُلنا: إنَّها لحظة لطيفة، والجوابُ ما قاله النَّووي في "شرح المهذَّب" تبعًا لغيره -: إنَّ التساوي وقَع في مُسمَّى البدنة والتفاوت في صفاتها، ويؤيِّده أنَّ في رواية ابن عجلان تكرير كلٍّ من المُتقرَّب به مرَّتين؛ حيث قال: ((كرجل قَدَّم بدنة، وكرجل قدَّم بدنة))؛ الحديث، ولا يَرد على هذا أنَّ في رواية ابن جريج قولَه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وأوَّل الساعة وآخِرها سواء))؛ لأنَّ هذه التَّسوية بالنسبة إلى البدنة كما تقرَّر.

واحتَجَّ من كره التبكير أيضًا بأنه يَستلزم تخَطِّي الرِّقاب في الرُّجوع لمن عرَضَت له حاجة، فخرج لها ثُم رجع، وتُعُقِّب بأنه لا حرج عليه في هذه الحالة؛ لأنَّه قاصد للوُصول لحقِّه، وإنما الحرج على مَن تأخَّر عن المجيء ثم جاء فتخطى، والله - سبحانه وتعالى - أعلم[37].

اختلف الجمهور في المراد بالساعات من أول النهار، هل أوَّلها من طلوع الفجر، أو من طلوع الشمس؟

قال الحافظ ابن رجب في "الفتح": "قالت طائفة: أوَّلها من طلوع الفجر، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد، واستدلوا بقوله: ((إذا كان الجمعة، كان على أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول)).. الحديث، كما سيأتي ذِكْره - إن شاء الله تعالى - وظاهره: أنَّ ذلك يكون بعد طلوع الفجر.

وقالتْ طائفة: أوَّلها مِن طلوع الشمس، وحُكِي عن الثوري وأبي حنيفة ومحمد بن إبراهيم البوشنجي، ورجَّحه الخطَّابي وغيره؛ لأنَّ ما قَبْله وقتٌ للسَّعي إلى صلاة الفجر، ورجَّح هذا القولَ عبدُالملك بن حبيب المالكي، وهؤلاء حمَلُوا السَّاعات على ساعات النهار المعهودة، وهو الظاهر المتبادِر إلى الفهم.

وأما ذِكر الرواح، فعنه جوابان:
أحدهما: أنه لمَّا كان آخِرُ الساعات بعد الزَّوال، وهو رَواح حقيقي، سُمِّيت كلُّها رواحًا، كما يُسمَّى الخارج للحجِّ والجهاد حاجًّا وغازيًا قبل تلَبُّسِه بالحجِّ والغزو؛ لأنَّ أمره ينتهي إلى ذلك.

والثاني: أن الرَّواح هنا أُريدَ به القصد والذهاب، بغضِّ النَّظر عن كونه قبل الزوال أو بعده.

قال الأزهري وغيرُه: الرَّواح والغُدوُّ عند العرب يُستعملان في السَّير أيَّ وقت كان، من ليل أو نهار، يُقال: راح في أول النهار وآخِره، وغدا بمعناه.

وأما التهجير، فيُجابُ عنه، بأنه استُعمل في هذا المعنى بمعنى التبكير - أيضًا - لا بمعنى الخروج في الهاجرة، وقيل: إنه ليس من الهاجرة، بل من الهجرة، والمراد بها: هَجْر الأعمال الدنيوية للسعي إلى الجمعة.

وقد دلَّ على استحباب التبكير من أول النهار حديثُ أَوس بن أوس، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من اغتسل يوم الجمعة وغَسَّل، وبَكَّر وابتكر، ودنا واستمع، كان له بكل خُطوة يخطوها أَجْر سنَةٍ صيامها وقيامها))؛ خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والتِّرمذي والنَّسائي وابن ماجه وابن حبان في"صحيحه"، وحسَّنه الترمذي، وله طرق متعدِّدة، قد ذكَرْناها في "شرح الترمذي"، وفي رواية للنَّسائي: ((وغدا وابتكر))، وفي بعض رواياته: ((ومشى ولم يركب)).

وظاهِرُ الحديث: يدلُّ على تقسيم يوم الجمعة إلى اثنتي عشرة ساعة، وأنَّ الخُطبة والصلاة يقَعان في السادسة منها، ومتى خرج الخطيب طوَت الملائكة صحُفَها، ولم يُكتب لأحد فضْل التَّبكير، وهذا يدلُّ على أنه بعد الزوال لا يُكتب لأحد شيءٌ من فضل التبكير إلى الجمعة بالكلِّية.

وظاهرُ الحديث: يدلُّ على تقسيم نهار الجمعة إلى اثنتي عشرة ساعة مع طول النهار وقِصَره، فلا يكون المراد به الساعات المعروفة من تقسيم الليل والنهار إلى أربعٍ وعشرين ساعة؛ فإن ذلك يختلف باختلاف طول النهار وقصره، ويدلُّ على هذا: حديثُ جابر، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يوم الجمعة ثِنْتا عشرة ساعة، لا يوجد مُسلم يسأل الله شيئًا إلاَّ آتاه إيَّاه، فالتمسوها آخِرَ ساعة بعد العصر))؛ خرَّجه أبو داود والنسائي بإسناد كلُّهم ثقات.

وظاهره: يدلُّ على أنَّ ساعة الإجابة جزءٌ من هذه الأجزاء الاثني عشر المتساوية في جميع فصول السُّنة، وزَعم بعض الشَّافعية: أنه ليس المرادُ بالسَّاعات في التَّبكير الأربعَ والعشرون، بل ترتيب الدَّرجات، وفضل السابق على الذي يليه؛ لئلاَّ يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرَفَي ساعة.

ورَدَّ ذلك آخَرون منهم، وقالوا: مَن جاء في أوَّل ساعة مِن هذه الساعات وآخرها مشتركان في تحصيل أصل البدنة أو البقرة أو الكبش مثلاً، ولكن بدنة الأوَّل أو بقرَتَه أكْمل ممَّا للَّذي جاء في آخِرِها، وبدنة المتوسِّط متوسِّطة، وهذا هو الأقرب، وعليه يُحمل الحديث الذي خرَّجه عبدالرزَّاق، عن ابن جُرَيج، عن سُمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا كان يوم الجمعة فاغتسل أحدُكم كما يَغتسل من الجنابة، ثم غدا في أوَّل ساعة، فله من الأجر مثل الجَزُور، وأوَّل الساعة وآخرها سواء))، وذكر مثل ذلك في الثانية، والثالثة، والرَّابعة، يقول: ((أولها وآخرها سواء))، وزاد في آخِر الحديث: ((ثُمَّ غُفِر له إذا استمع وأنصت ما بين الجُمْعتين، وزيادة ثلاثة أيام))، وفي هذه الرِّواية: ذكر الغُدوّ إلى الجمعة، والغدو يكون من أول النهار"[38].

الفصل الثاني: شروط وجوب الجمعة


اتَّفق العلماء على أنَّ الجُمعة تجب على كلِّ مسلم حرّ ذكَر، واختلفوا في شرطين آخَرَين:
الشرط الأول: الإقامة.
الشرط الثاني: القرب من موضعها.

المبحث الأول: شرط الإقامة:
وقد شرَطها الجُمهور من الأحناف[39] والمالكيَّة[40] والشافعية[41] والحنابلة[42]، وخالف في ذلك الظاهرية[43].

أدلَّة القائلين بِشَرْط الإقامة:
الدليل الأول:
عن جابر أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن كان يُؤْمن بالله واليوم الآخِر، فعليه الجُمعة يوم الجمعة، إلاَّ مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك، فمَن استَغنى بِلَهو أو تجارة استَغنى الله عنه، والله غنيٌّ حميد))؛ حديث صحيح؛ لشواهده[44].

الدليل الثاني:
حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليس على مسافر جمعة))؛ ضعيف لكن يشهد له ما قبله[45].

الدليل الثالث:
أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُسافر فلا يصلِّي الجمعة في سفَره.

الدليل الرابع:
كان في حجَّة الوداع بعرفة يوم الجمعة، فصلَّى الظُّهر والعصر جمْعَ تقديم، ولَم يُصلِّ جمعته وكذلك فعَل الخُلفاءُ الرَّاشدون وغيرهم.

دليل القائلين بعدم اشتراط الإقامة:
الدليل الأول:
استدلُّوا بعموم قوله - جلَّ وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: 9].
فقالوا: هذا يَشمل كلَّ مُسلم بدون تقييد، لا بِسَفر، ولا بغيره.

واستدلوا أيضًا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - "أنهم كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن الجمعة وهم بالبَحْرين؟ فكتب إليهم: أنْ جَمِّعوا حيثما كنتم"[46].

وعن ابن جريج قال: "بلَغني أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جمع بأصحابه في سفر، وخطَبَهم متوكِّئًا على قوس"[47].

الرَّاجح:
والذي يَظهر أنَّ الراجح مما سبق هو قول الجمهور، وقد أُجيبَ عن أدلة الظاهرية بما يلي:
أما عموم الآية فقد خصَّصه حديث جابر - رضي الله عنه - وفعله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في عدم صلاة الجمعة بعرفة.

وحديث عمر بن الخطاب فيه دلالة صحَّة الجمعة في القُرى والمدن، كما فَهِمه مخرِّجه حيث بَوَّب له بقوله: "باب مَن كان يرى الجمعة في القُرى وغيرها".

أما بلاغ ابن جريج فضعيف، وما كنَّا لِنَقبله ونَرُدَّ حديث جابر - رضي الله عنه - ومُرْسل ابن شهاب.

المبحث الثاني: شرط القرب من موضعها:
اتَّفق العلماء على أن الجمعة تجب على مَن في المِصر؛ سواءٌ سمع النِّداء أو لم يَسمع[48]، ثم اختلفوا في مسألتين:
المسألة الأولى: الاختلاف في وجوبها على أهل المصر والقرى.
المسألة الثانية: اختلاف الجمهور في حدِّ القرب من المصر.

المطلب الأول: وجوبها على أهل المصر والقرى.
فقيل: هي واجبة على أهل المصر فقط، ولا تَلزم الجمعةُ من كان خارج المصر أو القرية مع أهله بحال، إذا كان بينهم وبين المصر فُرْجة، ولو كانوا من ربض المصر، وهو مذهب الأحناف[49].

وقيل: واجبةٌ على أهل المصر والقرية، وهو مذهب جمهور العلماء من المالكية[50] والشافعية[51] والحنابلة[52]، وهو اختيار ابن تيميَّة[53].

أدلة القائلين بوُجوبها على أهل المصر دون خارجه:
الدليل الأول:
عن علي - رضي الله عنه -: ((لا جمُعة، ولا تشريق، ولا صلاة فِطْر ولا أضحى، إلاَّ في مصر جامع، أو مدينة عظيمة))؛ صحيح موقوف على علي - رضي الله عنه[54].

قالوا: وإن كان الصحيح وقْفَه فمِثله في حُكم المرفوع؛ لأنَّه من شروط العبادة، ولا مَدْخل للرأي فيها.

قالوا: لأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُقيم الجمعة بالمدينة فلا يدعو أهل العوالي والسَّواد، ولو وجَبَت عليهم لوجب عليه أن يأمرهم بها، قال: ولأنَّ كُلَّ موضع لا تجب فيه صلاة الجمعة لا تجب على أهله الجمعة، قياسًا على من لم يسمع النِّداء.

ولأنه لَمَّا لَم يكن سماع النِّداء في البلد شرطًا في وجوب الجمعة؛ لأنَّها تجب عليهم وإن لم يسمعوه، وجب أن يَبطل الاعتبار به فيمن خارج البلد، فلا تجب عليهم الجمعة وإن سمعوه، قال: ولأنَّ ما قَرُب من البلد في حكم ما بعد عنه، ألاَ ترى أنَّه لو نوى السَّفر، وفارق بنيان البلد، جاز له القَصْر والمسح ثلاثًا كما لو بعد عنه، فلَمَّا لم تجب الجمعة على مَن بعد لم تجب على من قرب[55].

أدلة وجوبها على أهل المصر والقرية:
الدليل الأول:
عموم قوله - جلَّ وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة: 9].

الدليل الثاني:
عن عبدالله بن عمرٍو أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الجمعة على من سمع النداء))؛ حديث حسَن[56].

وفيه أنَّ النِّداء قد يُسمع على مسافة فرسخ، فيلزم مَن كان خارج البلد بهذه المسافة.

الدليل الثالث:
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - "أنهم كتبوا إلى عُمَر بن الخطاب يسألونه عن الجمعة وهم بالبحرين؟ فكتب إليهم: أن جمِّعوا حيثما كنتم"[57].

الدليل الرابع:
عن ابن عبَّاس: أنه قال: "إن أول جمُعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مسجد عبدالقيس بِجُواثَى من البحرين"[58]، وهي قرية من قرى البحرين.

الدليل الخامس:
عن ابن عمر: "أنه كان يرى أهل المياه بين مكَّة والمدينة يجمعون، فلا يعيب عليهم"[59].

الدليل السادس:
حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدَّثَنا عبدالله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث عن عبيدالله بن أبي جعفر أنَّ محمد بن جعفر بن الزبير حدَّثه عن عروة بن الزُّبير عن عائشة زوجِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالتْ: كان الناس يَنْتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يُصيبهم الغبار، والعرق فيخرج منهم العرق، فأتى رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو أنَّكم تطَهَّرتم ليومكم هذا))[60].

الدليل السابع:
عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك - وكان قائدَ أبيه بعدما ذهب بصَرُه عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النِّداء يوم الجمعة ترَحَّم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النِّداء ترحَّمت لأسعد بن زرارة! قال: لأنَّه أوَّل مَن جمع بنا في هزم النَّبيت من حَرَّة بني بياضة في نَقِيع يقال له: نَقيع الخَضَمات، قلتُ: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون[61].

قال الخطابي: حَرَّة بني بياضة قرية على ميل من المدينة[62].

الدليل الثامن:
عن اللَّيث بن سعد قال: "كلُّ مدينة أو قرية فيها جماعة وعليهم أمير، أُمِروا بالجمعة، فلْيُجمع بهم؛ فإنَّ أهل الإسكندرية ومدائن مصر ومدائن سواحلها كانوا يُجمعون الجمعة على عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - بأمرهما، وفيها رجال من الصَّحابة"[63].

الدليل التاسع:
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((كلُّكم راعٍ)) وزاد الليث: قال يونس: كَتَب رُزَيق بن حكيم إلى ابن شهاب، وأنا معه يومئذ بوادي القرى: هل تَرى أن أجمع، ورزيق عامل على أرض يعملها وفيها جماعة من السُّودان وغيرهم، ورزيق يومئذ على أَيلَة، فكتب ابنُ شهاب - وأنا أَسمع - يأمره أن يجمع؛ يُخبِره أن سالِمًا حدَّثه أن عبدالله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((كلُّكم راع وكلُّكم مسؤول عن رعيته؛ الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيِّده ومسؤول عن رعيته))، قال: وحسبت أن قد قال: ((والرَّجل راعٍ في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلُّكم راع ومسؤول عن رعيته))[64].

ووجْه ما احْتجَّ به على التَّجميع من قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّكم راع)) أنَّ على من كان أميرًا إقامة الأحكام الشرعية - والجمعة منها - وكان رُزَيق عاملاً على الطائفة التي ذَكَرها، وكان عليه أن يراعي حقوقَهم، ومن جملتها إقامة الجمعة.

قال الزَّين بن المُنير: في هذه القصَّة إيماء إلى أنَّ الجمعة تنعقد بغير إذْنٍ من السُّلطان إذا كان في القوم من يقوم بمصالحهم، وفيه إقامة الجمعة في القرى، خلافًا لمن شرط لها المُدُن.

فإن قيل: قوله: ((كلُّكم راعٍ)) يعمُّ جميع الناس، فيدخل فيه المرْعيُّ أيضًا، فالجواب أنه مرعي باعتبار، راعٍ باعتبار، حتى ولو لم يكن له أحَدٌ كان راعيًا لجوارحه وحواسِّه؛ لأنَّه يجب عليه أن يقوم بحقِّ الله وحق عباده[65].

الدليل العاشر:
عن أبي هريرة، قال: أتى النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله، إنَّه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يرخص له، فيصلِّي في بيته، فرخَّص له، فلما ولَّى، دعاه، فقال: ((هل تسمع النِّداء بالصلاة؟)) قال: نعم، قال: ((فأجب)).

وهذا الحديث عامٌّ فيمَن كان من أهل القرية نفْسِها ومن كان قريبًا منها وهو يسمع النِّداء، فإذا تأكَّد إجابة النِّداء لصلاة الجماعة فالجمعة من باب أولى.

الترجيح:
والذي يَظهر أن الرَّاجح هو قول الجمهور؛ لما سَبَق من الأدلة، وقد أجابوا عن أدلة الأحناف بأجوبة:
فأما الجواب عن قوله: "لا جمعة إلاَّ على أهل مصر جامع"، فهو مروي عن علي - رضي الله عنه - وموقوف عليه، ولو صحَّ مُسنَدًا لَحُمل على من لم يسمع النِّداء، وخصَّ بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - "الجمعة على كلِّ من سمع النداء"؛ لأنه عام، وهذا خاصٌّ منه.

وأما قولهم أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يأمر أهل العوالي والسواد بها، فبُهْت مع نصِّ كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّ الله تعالى قد أمرهم بها بقوله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9].

ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد ندبهم إليها في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تجب الجمعة على كلِّ مسلم)).

وأما قياسهم فالمعنى في أصله: أنه لم يَبْلغهم شعار الجمعة.

وأما قولهم: لما بطَل اعتبار النِّداء في وجوب الجمعة في البلد بطَل اعتباره خارج البلد، وهو نداء الجامع، فلا يُعتبر في أهل البلد، ولا في الخارجين عنه، والنِّداء الذي اعتبرناه خارج البلد اعتبرناه في البلد، وهو النِّداء في كلِّ موضع منه، فاستَوَيا.

وأمَّا قولهم ما قَرُب من البلد في حُكم ما بعد عنه، فغير صحيح؛ لأنه لو نَوى سفَر ما قَرُب لم يَقْصر، ولو نوى سفر ما بَعُد جاز أن يقصر، فعُلِم أن حكم ما قرب قد يخالف حكم ما بعد.

فإذا صحَّ ما ذكرناه، فهو حُجَّة على جميع مَن خالفنا[66].

المطلب الثاني: اختلاف الجمهور في حد القرب من المصر:
ذهَب جمهور العلماء إلى القول بأنَّ الجمعة واجبة على أهل المصر والقرية، وعلى من كان خارِجَهما مع القرب دون البعد.

ثم اختلفوا في حدِّ هذا القرب على أقوال:
فقيل: تجب الجمعة على من يبعد عن البلد بنحو فَرْسخ فأَقلَّ؛ أيْ: ما يقارب ثلاثة أميال، ولا فرق في ذلك بين المصر والقرية والأخصاص (أيْ: بيوت الجريد أو القصَب)، وهو مذهب المالكية[67]، والحنابلة[68]، واختاره ابن تيميَّة[69].

وقيل: العبرة بسماع النِّداء، وهو مذهب الشافعية، وهو رواية عن أحمد[70].

وقيل: يلزم المجيء إلى الجمعة مَن كان منها بحيث إذا زالت الشمس وقد توضَّأ قبل ذلك، دخل الطريق أثر أول الزَّوال، ومشى مُترسِّلاً، ويُدرك منها ولو السَّلام، سواء سمع النداء أو لم يسمع، وهو مذهب الظاهريَّة[71].

وقيل: مَن آواه اللَّيل إلى أهله، رُوي ذلك عن ابن عُمَر وأبي هريرة وأنس والحسن ونافع مولى ابن عمر، وكذلك قال عكرمة والحكم وعطاء والأوزاعي وأبو ثور[72]، وقيل غير ذلك[73].

أدلَّة القائلين بأنها تجب الجمعة على من يبعد عن البلد بنحو فرسخ فأقل:
الدليل الأول:
عن جابر - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطيبًا يوم الجمعة، فقال: ((عسى رجلٌ تحضره الجمعة وهو على قَدْر ميل من المدينة، فلا يحضرها))، ثم قال في الثانية: ((وهو على قدْر ميلين من المدينة فلا يحضرها))، ثم قال في الثالثة: ((وهو على قدر ثلاثة أميال من المدينة، فلا يحضر الجمعة، ويطبع الله على قَلْبه))؛ ضعيف جدًّا[74].

الدليل الثاني:
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألاَ هل عسى أحَدُكم أن يتَّخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين، فيتعذَّر عليه الكلأ، فيرتفع، ثم تَجِيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها، وتجيء الجمعة فلا يَشهدها، وتجيء الجمعة فلا يشهدها، حتىَّ يُطبَع على قلبه))؛ صحيح لغيره[75].

الدليل الثالث:
حدَّثنا أحمد بن صالح، قال: حدَّثنا عبدالله بن وَهْب، قال: أخبرني عمرُو بن الحارث عن عُبَيدالله بن أبي جعفر أنَّ محمد بن جعفر بن الزبير حدَّثه عن عروة بن الزُّبير عن عائشة زوجِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت: كان النَّاس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار، والعرق فيخرج منهم العرق، فأتى رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو أنَّكم تطهَّرتم ليومكم هذا))[76].

وقد جاء تحديد العوالي عند البخاري، قال: حدَّثنا أبو اليَمَان قال: أخبرنا شُعَيب عن الزُّهري، قال: حدَّثني أنس بن مالك، قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصلِّي العصر والشمسُ مرتفعة حيَّة، فيذهب الذَّاهب إلى العوالي، فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه[77].

الدليل الرابع: آثار عن بعض الصحابة:
عن عمرو بن شُعَيب أنَّ عبدالله بن عمرِو بن العاص "يكون بالوهط، فلا يَشْهد الجمعة مع الناس بالطَّائف، وإنما بَيْنه وبين الطائف أربعة أميال أو ثلاثة"[78].

عن ثابتٍ البُنَاني قال: كان أنَسٌ "يكون في أرضه، وبينه وبين البصرة ثلاثة أميال، فيَشهد الجمعة بالبصرة"[79].

أدلة القائلين: إنَّ العبرة بسماع النداء:
استدلوا بعموم قوله - جلَّ وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: 9].

عن عبدالله بن عمرو أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الجمعة على من سمع النداء))؛ حديث حسَن.

قالوا: إنَّ القاعدة تقول: المُطْلق يَجري على إطلاقه ما لم يَقُم دليلُ التقييد نصًّا أو دلالة، ومعناه أنَّه يجري على إطلاقه ما لم يَقُم دليل التقييد نصًّا؛ أيْ: لفظًا، وذلك بأن يكون مقرونًا بنحوِ صفة، أو حال، أو إضافة، أو مفعول، أو نهي، أو شرط، أو استثناء، أو دلالة، كقول المكاري لآخَر: اشْتَرِ لي بغلاً أو بغلة، فاشترى له بغلة[80].

وتقييد سماع النِّداء بمسافة معيَّنة لم يثبت بدليل، وهو مَحْض تحَكُّم، واختلاف الصحابة - رضي الله عنهم - دليل على عدم ورود مقيَّد، فوجب العمل بالحديث على إطلاقه، والمعتبر مَظِنَّة السَّماع غالبًا، إذا كان المؤذِّن صَيِّتًا، والرِّياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتَفِية.

وحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألاَ هل عسى أحدكم أن يتَّخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين، فيتعذَّر عليه الكلأ، فيرتفع، ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها، وتجيء الجمعة فلا يَشهدها، وتجيء الجمعة فلا يشهدها، حتى يُطبع على قلبه)).

فيه تنبيه على أن الميل والميلَيْن مِنْ مظنَّة القرب، ومِن مظنَّة سماع النِّداء غالبًا، وليستْ نصًّا فيما زاد عنها أنه لا تجب عليه.

أدلَّة القائلين: يلزم المجيء إلى الجمعة مَن كان منها بحيثُ إذا زالتِ الشمسُ وقد توَضَّأ قبل ذلك، دخل الطريق إثْرَ أول الزوال، ومشى مُترسِّلاً، ويُدرك منها ولو السَّلام، سواء سمع النداء أو لم يسمع.

قالوا: إنُّ النِّداء قد لا يَسمعه؛ لِخَفاء صوت المؤذِّن، أو لحمل الرِّيح له إلى جهة أخرى، أو لحوالة رابية من الأرض دونه من كان قريبًا جدًّا، وقد يسمع على أميال كثيرة إذا كان المؤذِّن في المنار والقرية في جبل والمؤذِّن صَيِّتًا والرِّيح تحمل صوته.

أنَّ قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أتَسمع النِّداء؟)) قال: نعم، قال: ((أَجِب))، أنه إنَّما أمره بالإجابة لحضور الصَّلاة المدعوِّ إليها، لا مَن يوقن أنه لا يدرك منها شيئًا، هذا معلوم يقينًا، ويبيِّن ذلك إخبارُه - عليه السَّلام - بأنه يهمُّ بإحراق منازل المتخلِّفين عن الصلاة في الجماعة لغير عُذر.

فإذْ قد اختلفوا هذا الاختلافَ، فالمرْجوع إليه ما افتَرَض الله الرجوعَ إليه مِنَ القرآن والسُّنة، فوَجدنا الله تعالى قد قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9]، فافترض الله تعالى السَّعي إليها إذا نُودي لها، لا قبل ذلك، ولَم يَشترط تعالى مَن سمع النداء ممن لم يسمعه، والنِّداء لها إنما هو إذا زالت الشمس، فمن أَمَر بالرَّواح قبل ذلك فرضًا فقد افتَرَض ما لم يفترضه الله تعالى في الآية ولا رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فصحَّ يقينًا أنه تعالى أمر بالرَّواح إليها إثْرَ زوال الشمس، لا قبل ذلك، فصحَّ أنه قبل ذلك فضيلة لا فريضة، كمن قرَّب بدنة، أو بقرة، أو كبشًا، أو ما ذُكِر معها.

وقد صحَّ أمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَن مشى إلى الصَّلاة بالسكينة والوقار، والسَّعي المذكور في القرآن إنما هو المَشْي لا الجري، وقد صحَّ أن السَّعي المأمور به إنما هو لإدراك الصَّلاة لا لِلْعَناء دون إدراكها، وقد قال - عليه السَّلام -: ((فما أدركتم فصَلُّوا، وما فاتكم فأتِمُّوا))، فصحَّ قولُنا بيقين لا مِرْية فيه[81].

أدلة القائلين: إنها تجب على مَن آواه الليل إلى أهله:
عن أبي هريرة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الجمعة على مَن آواه اللَّيل إلى أهله))؛ ضعيف جدًّا[82].

والمعنى أنَّها تجب على مَن يمكنه الرُّجوع إلى أهله قبل دخول الليل، واستُشكل بأنه يَلزم منه أنه يجب السَّعي من أول النهار، وهو بخلاف الآية[83].

الراجح:
والذي يظهر أن الرَّاجح هو أنَّ العبرة بسماع النِّداء، أمَّا تحديده بفرسخ فغير منصوص، والقاعدة تقضي بأنَّ المُطْلَق يجري على إطلاقه ما لم يَقُم دليل التقييد نصًّا أو دلالة، خصوصًا وأنَّ الصحابة قد اختلفوا في تقدير حدِّ القرب، فوجب الرُّجوع إلى النَّصِّ، أمَّا تحديدها بوقت الزوال فغير منضبط؛ لكون الناس ليسوا سواء في معرفته.

وأما من قال: إنها تجب على من آواه الليل إلى أهله، فمَحْجوج بِوَهاء طرُق الحديث، فبَقِي إذًا النِّداء الذي هو شعار المسلمين، وبه أُنيطَ الحضور إلى صلاة الجماعة، فمِن باب أولى أن تُناط به الجمعة، فمن سَمِعه وجب عليه إجابته، وقد يَسمع على أميال كثيرة إذا كان المؤذِّن في المنار، والقرية في جبل، والمؤذِّن صيِّتًا، والرِّيح تحمل صوته، خصوصًا في عصرنا الحالي وقد اختُرِعت مُكبِّرات الصوت التي قد ملأَتْ جنبات المدن، فأصبح النِّداء يبلغ أميالاً، والتقييد بغير نصٍّ صحيحٍ صريح فيه تحجيرُ الواسع، والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم.

الفصل الثالث: كيفية الجمعة


للجمعة ركنان؛ الصَّلاة، والخُطبة، وأجمعت الأمَّة على أن الجمعة ركعتان، وعلى أنه يُسنُّ الجهر فيهما بفاتحة الكتاب وسورة؛ لِمَا رُوي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفِطْر ركعتان، وصلاة السَّفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمامٌ غيرُ قَصْر، على لسان نبيكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد خاب من افترى"[84]، وهو صحيح.

ويُستحب القراءة فيهما بسورَتَي الجمعة والمنافقين[85]؛ لِمَا فيهما من الحثِّ والترغيب في حضورها، وأنَّ التخلُّف عنها من صفات المنافقين، أو سُورتَي الأعلى والغاشية، أو سورتي الجمعة والغاشية؛ لما فيهما من التذكير بأحوال الآخرة، ويقرأ السورتين كاملتين، وكان مالكٌ[86] يقول: الذي جاء به الحديث: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ﴾ الآيةَ، يعني مع سورة الجمعة، والذي أدركتُ عليه الناس: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾، وكان الشافعي[87] وأبو ثَوْر يقولان بحديث عبيدالله بن أبي رافع، عن أبي هريرة، وقال أصحاب الرأي: يُكره أن يوقِّت في ذلك وقْتًا، ما قرأ في الجمعة فحَسَن[88]، وأمَّا الاقتصارُ على أواخرهما فلم يَفعله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قطُّ، ومُخالِفٌ لِهَدْيه - صلَّى الله عليه وسلَّم.

ودليل هذا ما رُوي:
عن عُبيد الله بن أبي رافع، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قرأ في الجمعة بسورة الجمعة وإذا جاءك المنافقون، قال عُبيدالله: فقلت له: قد قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقرأ بهما في الجمعة، فقال: "إنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقرأ بهما"[89].

عن ابن عباس، " أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقرأ في صلاة الفجْر، يوم الجمعة: الم تَنْزيل السَّجدة، وهل أتى على الإنسان حين من الدَّهر، وأن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين"[90].

عن سَمُرة بن جندب، أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - "كان يقرأ في صلاة الجمعة، بـ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾، و﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ[91].

عن النُّعمان بن بشير قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾، و﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ﴾، قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة، في يوم واحد، يقرأ بهما في الصلاتين"[92].

وفي رواية: أنَّ الضحَّاك بن قيس سأل النُّعمان بن بشير: ماذا كان يقرأ به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة؟ قال: "كان يقرأ بـ: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ[93].

المبحث الأول: أداؤها في الزحام:
اختلف العلماء[94] في مَن زُوحِم على السُّجود، ولم يجد موضعًا للسُّجود، على أقوال:
فقيل: مَن زحمَه الناس فلم يجد موضعًا للسُّجود، فسَجَد على ظهر رجل أجْزَأَه، وهو مذهب الأحناف[95] والشافعية[96] والحنابلة[97].

ودليلهم في ذلك:
ما رُوي عن عمر - رَضي الله عنه -: "من اشتدَّ عليه الحرُّ يوم الجمعة في المسجد فليصلِّ على ثوبه، ومن زحمَه الناس فلْيَسجد على ظهر أخيه "[98].

وقد قال عمر - رَضي الله عنه - هذا في خُطبة بحضور الصَّحابة بغير نكير من أحد، فصار إجماعًا.

أن ذلك هو ما يَقْدر عليه، فلا يُكلَّف إلا بما استطاع.

وقيل: لا يَفعل وإلاَّ تبطل الصلاة، وهو مذهب المالكية[99].

ودليلهم أنه أخلَّ بركْن؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حديث المُسِيء صلاتَه: ((أمْكِن جبْهَتَك من الأرض))[100].

وقيل: إن شاء انتظر زوال الزحام، وإن شاء سجَد على ظهره، وهو الأفضل، وهو رواية عن الإمام أحمد والشَّافعي في القديم[101].

ودليلهم أنه إذا سجد حصلتْ له فضيلةُ المتابَعة، وإذا انتظر زوال الزحمة حصل له فضيلة السُّجود، فصار مُخيَّرًا بين الفضيلتين.

وقيل: يسجد كيف أمكنه، ولو إيماءً، فإن لم يقدر أصلاً وقف كما هو، وهذا مذهب ابن حزم[102].

ودليله:
لقوله - جلَّ وعلا -: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].

وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا أمرتُكم بشيء، فأْتُوا منه ما استطعتم))[103].

لا فرق بين عُذْر المرض أو الخوف أو الزحام، وقد صلَّى السَّلف إيماءً في المسجد؛ إذْ كان بنو أُميَّة يؤخِّرون الصلاة إلى قرب غروب الشمس.

الراجح:
الذي يَظهر من خلاف العلماء أن مذهب ابن حزم قوي، غيرَ أن الراجح هو قول الجمهور؛ لحديث عمر - رَضي الله عنه - في خطبته بحضور الصحابة بغير نكير من أحد، فصار إجماعًا.

وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] "حاشية ابن عابدين" (3 / 3) "بدائع الصنائع" (1 / 256 ).
[2] "الشرح الصغير" (1 / 493 ) "مواهب الجليل" (3 / 531).
[3] "الحاوي الكبير" (2 / 400) "مُغْني المحتاج" (1 / 276)، "البجيرمي على الخطيب" (2 / 388).
[4] "المُغْني" (2 / 294) "الشَّرح الكبير" (5 / 160).
[5] "المُحلَّى" (5 / 36).
[6] "مَعالم السُّنن" (1 / 244)، وردَّه العراقي بأنه خلاف ما اتفق عليه الأئمة الأربعة.
[7] "المجموع" (4 / 349).
[8] "الأم" (2 / 374).
[9] "بداية المجتهِد" (1 / 303).
[10] "الاستذكار" (5 / 119).
[11] "إكمال المُعْلِم بفوائد مسْلِم" (3 / 266).
[12] "عارضة الأحوذي" (2 / 286 - 287).
[13] [الجمعة: 9].
[14] "مصنف عبدالرزاق الصنعاني"،كتاب الجمعة، باب السعي إلى الصلاة (5365)، والبيهقي في "السُّنن الكبرى" (5867)
[15] [الليل: 4].
[16] البيهقي في "السُّنن الكبرى" (5868).
[17] مسلم (652).
[18] رواه الترمذي (500)، وابن ماجه (1125)، وحسَّنه الترمذي.
[19] رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة 876، فاستدل به البخاري على فرضيتها.
[20] الفتح (2 / 457).
[21] سيأتي بحثه - إن شاء الله.
[22] رواه النسائي 1371.
[23] "الاستذكار" (5 / 119).
[24] نقلاً عن إجماعات ابن عبدالبرِّ، للبوصيري (639).
[25] "نَيْل الأوطار" (6 / 230).
[26] "سبُل السلام" (2 / 65).
[27] "الاختيار لتعليل المختار" (1 / 85) "ردّ المحتار" (3 / 38) "شرح فتح القدير" (2 / 66) "العناية شرح الهداية" (3 / 107).
[28] "الكافي" (70) "حاشية الدُّسوقي على الشَّرح الكبير" (1 / 388) "الفواكه الدَّواني" (2 / 621) "الثَّمر الداني" (182).
[29] "الحاوي الكبير" (2 / 428) "حاشية البجيرمي على الخطيب" (2 / 389).
[30] "المُغْني" (3 / 162) "الشَّرح الكبير" (5 / 245) "شرح الزَّركشي على مختصر الخرقي" (2 / 168) "المُحرَّر في الفقه" (1 / 143) "الإنصاف" (5 / 277) "شرح منتهى الإرادات" (2 / 29).
[31] البخاري (912).
[32] "مواهب الجليل" (2 / 535) "التاج والإكليل" (2 / 535) "الفواكه الدَّواني" (1 / 410).
[33] "الحاوي الكبير" (2 / 452)، "المجموع" (4 / 413)، "مُغْني المحتاج" (1 / 437)، "المُغْني" (3 / 164)، "شرح الزَّركشي على مختصر الخرقي" (2 / 169).
[34] البخاري (881) ومسلم (850).
[35] "الفتح" (2 / 369).
[36] البخاري (929) ومسلم (850).
[37] "الفتح" (2 / 370).
[38] "فتح الباري" (8 / 95).
[39] "المبسوط" (2 / 21)، "الدُّر المختار" (3 / 27)، "بدائع الصنائع" (1 / 258).
[40] "الكافي" في فقه أهل المدينة (1 / 248)، "القوانين الفقهية" (63)، "بداية المجتهِد" (1 / 159).
[41] "مُغْني المحتاج" (1 / 414)، "المهذب" (1 / 205)، "المجموع" (4 / 351).
[42] "دليل الطالب" (1 / 55)، "المُغْني" (3 / 206).
[43] "المُحلَّى" (5 / 49).
[44] أخرجه الدارقطني (2 / 305)، والبيهقي (3 / 261)، من طريق ابن لهيعة، ثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن أبي الزُّبير عن جابر، فذكره.
وهذه الطريق لها ثلاث عِلَل:
الأولى: ابن لَهِيعة، وقد اختلط.
الثانية: جهالة معاذ بن محمد الأنصاري، قال العقيلي: في حديثه وَهْم يحمل حديث رجل على غيره؛ "الضُّعفاء" (1348).
"لسان الميزان" (8 / 95): قال الذَّهبي ما رَوى عنه إلاَّ ابن لهيعة؛"المُغْني في الضعفاء" (307).
الثالثة: عنْعَنةُ أبي الزبير لا تُقبل ما لم يصرِّح بالتحديث.
غير أنَّ للحديث شواهدَ يصحُّ بها:
الشاهد الأول: من حديث طارق بن شهاب.
أخرجه أبو داود (1067) مرسَلاً، وقال: "طارقٌ قد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه".
وقد رواه الحاكم (1 / 288) من حديث طارق عن أبي موسى عن النبي - صلَّى الله عليه وسلم - وصحَّحه.
قال الحافظ في "التلخيص" (651) : "وصحَّحه غير واحد".
غير أنَّ المحفوظ هو المُرسَل.
قال البيهقي (3 / 261) : "هذا الحديث وإن كان فيه إرسال فهو مرسل جيِّد".
قال الزيلعي (2 / 199) : "قال النَّووي في "الخلاصة": وهذا غير قادح في صِحَّته، فإنه يكون مُرسَل صحابي، وهو حُجَّة، والحديث على شرط الشيخين".
الشاهد الثاني: من حديث تميم الداري مرفوعًا: ((الجمعة واجبة، إلاَّ على صبي أو مملوك أو مسافر))؛ أخرجه العُقيلي في "الضعفاء" (193) والبيهقي (3 / 261) وزاد: ((المرأة والمريض))، وسنده ضعيف جدًّا.
فأبو عبدالله الشامي مجهول؛ "الجَرح والتعديل" (9 / 409).
والحكَم أبو عمرو بن عمرو مجهول؛ "الجَرح والتعديل" (3 / 119).
ومحمد بن طلحة بن مُصرِّف ضعيف؛ "تهذيب التَّهذيب" (3 / 597).
وضِرَار بن عمرو وقال فيه البخاري فيه نظر؛ "العقيلي" (193).
قال أبو زرعة: "هذا حديث منكَر"؛ "عِلَل ابن أبي حاتم" (2 / 585).
الشاهد الثالث: عن مولى لآل الزبير:
أخرجه البيهقي (5 / 261) من طريق حسن بن صالح بن حي، حدَّثني أبي، حدَّثني أبو حازم عنه، وسنده ضعيف.
الشاهد الرابع: عن أبي هريرة:
أخرجه الطبراني في "الأوسط"، كما في "مَجْمع البحرين" في زوائد المعجمين (2 / 195) من طريق عبدالعظيم بن رغبان الحمصي، ثنا أبو معشر عن سعيد المَقبري عن أبي هريرة، وقال: لم يَروه عن المقبري إلاَّ أبو مَعْشر، تفَرَّد به عبدُالعظيم.
وأبو معشر ضعيف أسَنَّ، واختلَطَ كما في "التقريب".
وعبدالعظيم بن رغبان ضَعَّفه الدارقطني؛ "اللِّسان" (4 / 40)، و"الميزان" (2 / 639).
وقد رواه الطبراني في "الأَوْسَط" زوائد المعجمين (2 / 196)، من طريق إبراهيم بن حماد بن أبي حازم المَدِينِي، ثنا مالك بن أنس، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج عن أبي هريرة.
قال الطبراني: "لم يَرْوِه عن مالك إلاَّ إبراهيم".
وإبراهيم بن حمال ضعَّفه الدارقطني؛ "اللِّسان" 1 / 50، "الميزان" 1 / 28.
الشاهد الخامس: عن محمد بن كعب القرظي وهو مرسل.
أخرجه ابن أبي شيبة (5191)، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، وعنعنة هشيم.
[45] أخرجه الطبراني في "الأوسط" (مجمع البحرين (2 / 197))، والدارقطني (2 / 307)، من طريق القواريري، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عبدالله بن نافع، عن أبيه، عنه.
وعبدالله بن نافع ضعيف.
قال يحيى: ضعيف، وقال مرة: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بذاك، وقال مرة: يُكتب حديثه، وقال عليٌّ: يَروي أحاديثَ مُنكرة، وقال البخاريُّ: مُنكَر الحديث.
وقال النَّسائيُّ: متروك الحديث، وقال ابن حبَّان: كان يَخْطئ ولا يعلم، لا يُحتجُّ بأخباره التي لم يُوافق فيها الثِّقات؛ "الضعفاء والمتروكين" (2 / 144).
قال البيهقي: الصحيح وقْفُه على ابن عمر.
[46] رواه ابن أبي شيبة (5108) وابن حزم في "المُحلَّى" (5 / 50) بسند صحيح.
[47] عبدالرزَّاق في "مصنَّفه" (5196) "المُحلَّى" (5 / 50).
قال أبو بكر الأثرم، عن أحمد بن حنبل: إذا قال ابن جريج: "قال فلان" و"قال فلان" و"أخبرت" جاء بِمَناكير، وإذا قال: "أخبرني" و"سمعت" فحَسْبُك به"؛ "تهذيب الكمال" (18 / 348).
قال الدارقطني: تجَنَّب تدليس ابن جريج؛ فإنَّه قبيح التدليس، لا يدلِّس إلاَّ فيما سمعه من مجروح، مثل إبراهيم بن أبي يحيى، وموسى بن عبيدة وغيرهما، وأما ابن عُيَيْنة فكان يدلِّس عن الثِّقات؛ "تهذيب التهذيب" (6 / 405).
[48] "الاستذكار" (باب الأمر بالصلاة قبل الخطبة في العيدين)؛ "المجموع" (4 / 353) "فتح الباري" لابن رجب (8 / 156) "نَيْل الأوطار" (6 / 235).
[49] "الاختيار لتعليل المختار" (1 / 82)، "بدائع الصنائع" (1 / 261)، "حاشية ابن عابدين" (3 / 30).
[50] "المدوَّنة" (1 / 233)، "أقرب المسالك" (25)، "التلقين" (131)، "الكافي" في فقه أهل المدينة (69)، "حاشية الصَّاوي" (1 / 325)، "مواهب الجليل" (2 / 527)، "الإكليل" (72).
[51] "الأم" (2 / 381) "المجموع" (4 / 354) "مُغْني المحتاج" (1 / 415) "الحاوي الكبير" (2 / 404).
[52] "المُحرَّر في الفقه" (142) "المقْنِع، مع الشَّرح الكبير، مع الإنصاف" (5 / 161) "المُغْني" (3 / 208) "كشَّاف القِناع" (1 / 503).
[53] "مجموع الفتاوى" (24 / 92).
[54] أخرجه عبدالرزَّاق في "مصنَّفه" (53 / 167 - 168 (والبيهقي في "السُّنَن الكبرى" (3 / 179) والطَّحاوي (2 / 54) من طريق زبيد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبدالرحمن عن علي، فذَكَره، وإسناده صحيح.
وأخرجه عبدالرزاق في "مصنَّفه" وابن أبي شيبة (2 / 101)، من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي فذكره، وفيه الحارث الأعور.
قال الحافظ: في حديثه ضعْفٌ، كذبه الشَّعبي في رأيه، ورُمِي بالرَّفض.
[55] "الحاوي الكبير" (2 / 405).
[56] أخرجه أبو داود (1056) وأبو بكر المَروزي في كتاب الجمعة (69) والدَّارقطني (1590) والبيهقي (3 / 246) وابن الجوزي (1 / 157) من طريق قبيصة، حدثنا سفيان، عن محمد بن سعيد، يعني الطائفي، عن أبي سلمة بن نبيه، عن عبدالله بن هارون، فذكره.
قال أبو داود: رَوى هذا الحديث جماعة، عن سفيان، مقصورًا على عبدالله بن عمرو، لم يرفعوه، وإنما أسنده قبيصة.
قال الدارقطني: "قال ابن أبي داود: محمد بن سعيد هو الطائفي ثقة وهذه سنة تفرد بها أهل الطائف".
غير أنَّ للحديث علَّتَيْن:
الأولى: الاختلاف في رفعه ووقفه.
الثانية: جهالة كلٍّ من أبي سلمة بن نبيه، وعبدالله بن هارون، كما قال الحافظ في "التَّقريب".
قال البيهقي: وقبيصة بن عقبة من الثقات، ومحمد بن سعيد هذا هو الطائفي ثقة، وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه.
وهذا الشاهد أخرجه الدارقطني (1589) والبيهقي (5583) من طريق الوليد عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قال الحافظ في "الفتح" (2 / 385) : "ويؤيِّده قوله - صلَّى الله عليه وسلم - لابن أمِّ مكتوم: ((أتَسْمَع النِّداء؟)) قال: نعم، قال: ((فأجب)).
[57] رواه ابن أبي شيبة (5108) وابن حزم في "المُحلَّى" (5 / 50) بسند صحيح.
[58] أخرجه البخاري (812).
[59] "مصنف عبدالرزَّاق" (5199) بسند صحيح.
[60] البخاري 902.
[61] أخرجه أبو داود (1069) وابن ماجه (1082) وابن خزيمة (3 / 112-113) والدارقطني (2 / 5-6) والحاكم (1 / 281) بسند حسن.
[62] "مَعالم السُّنن" (245).
[63] البيهقي في "الكبرى" (5612).
[64] البخاري (893).
[65] "فتح الباري" (2 / 381).
[66] "الحاوي الكبير" (2 / 406).
[67] "المدوَّنة" (1 / 233) "أقرب المسالك" (25) "التلقين" (131) "الكافي" في فقه أهل المدينة (69) "حاشية الصَّاوي" (1 / 325) "مواهب الجليل" (2 / 527) "الإكليل" (72).
[68] "المُحرَّر في الفقه" (142) المقنع مع "الشَّرح الكبير" مع "الإنصاف" (5 / 161) "المُغْني" (3 / 208) "كشَّاف القِناع" (1 / 503).
[69] "مجموع الفتاوى" (24 / 68).
[70] "المقنع، مع الشَّرح الكبير، مع الإنصاف" (5 / 165).
[71] "المُحلَّى" (5 / 526).
[72] "فتح الباري" لابن رجب (8 / 161).
[73] "المجموع" (4 / 354) "فتح الباري" لابن رجب (8 / 161) : "وقالت طائفة: تجب الجمعة على من بينه وبينها أربعة أميال ؟ وروي عن ابن المنكدر والزهري وعكرمة وربيعة.
ورُوي عن الزهري - أيضًا - تحديده بستة أميال، وهي فرسخان.
وروي عن أبي هريرة، قال: تُؤتى الجمعة من فرسخين.
خرجه ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف.
ورَوى عبدالرزَّاق بإسناد منقطع، عن معاذ، أنه كان يقوم على منبره، فيقول لقوم بينهم وبين دمشق أربع فراسخ وخمس فراسخ: "إن الجمعة لَزِمَتكم، وأن لا جمعة إلاَّ معَنا".
وبإسناد منقطع، عن معاوية، أنه كان يأمر بشهود الجمعة مَن بينه وبين دمشق أربعة عشر ميلاً.
وقال بقيَّة: عن محمد بن زياد: أدركتُ الناس بحِمْص تبعث الخيل نهار الخميس إلى جوسية وحماة والرستن، يجلبون الناس إلى الجمعة، ولم يكن يُجمع إلاَّ بحمص.
وعن عطاء، أنه سُئِل: مِن كم تُؤتى الجمعة ؟ قال: من سبعة أميال.
وعنه، قال: يُقال: من عشرة أميال إلى بريد.
وعن النَّخعي، قال: تُؤتى الجمعة من فرسخين.
وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه أمر أهل قباء، وأهل ذي الحليفة، وأهل القرى الصِّغار حوله: لا يُجمِّعوا، وأن يشهدوا الجمعة بالمدينة.
وعن ربيعة - أيضًا - أنه قال: تجب الجمعة على مَن إذا نُودي بصلاة الجمعة خرج من بيته ماشيًا أدرك الجمعة.".
[74] أخرجه أبو يعلى في "مُسنده" (4 / 141) وفيه سفيان بن وكيع، وهو ضعيف.
وفيه أيضًا الفضل الرقاشي.
‏ قال عبدالله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: ضعيف.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن مَعِين: كان قاصًّا، وكان رجل سوء.
قلت: فحَدِيثُه ؟ قال: لا تسأل عن القدَريِّ الخبيث.
وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن مَعين: سُئل سفيان بن عُيَينة، فقال: لا شيء.
وقال أبو زُرعة: مُنكَر الحديث.
وقال أبو حاتم: منكر الحديث، في حديثه بعض الوهن، ليس بقوي.
وقال سلام بن أبي مطيع عن أَيُّوب السَّختياني: لو أنفضلاً الرَّقاشي وُلِد أخرس كان خيرًا له.
وقال أبو عُبَيد الآجرِّي: قلتُ لأبي داود: أكتب حديث فضل الرقاشي ؟ قال: لا، ولا كرامة.
عن أبي داود: حدَّث عن حماد بن زيد عن الفضل بن عيسى الرقاشي، وكان من أخبث الناس قولاً.
وقال النَّسائي: ضعيف.
وقال في موضع آخَر: ليس بثقة.
وقال أبو أحمد بن عدي: والضَّعف بيِّنٌ على ما يرويه؛ "تهذيب الكمال" (23 / 244).
[75] أخرجه ابن ماجه (1127 ) وأبو يعلى (6450) وابن خزيمة (1859) والحاكم في "المستدْرَك" (1084) من طريق معدي بن سليمان، أبي سليمان، صاحب الطعام، حدثنا ابن عجلان، عن أبيه، فذكره، ومعدي بن سليمان ضعيف.
قال أبو زرعة: واهي الحديث، يُحدِّث عن ابن عجلان بمناكير.
وقال أبو حاتم: شيخ؛ "الجَرح والتعديل" (1997).
وقال النسائي: ضعيف؛ "تهذيب الكمال" (6083).
قال الحافظ: وصحَّح الترمذي حديثه، وقال ابن حبَّان: يَروي المقلوبات عن الثِّقات، والملزقات عن الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد؛ "تهذيب التهذيب" (420) "الميزان" (8652).
وللحديث شواهد تقوِّيه:
الشاهد الأول: أخرجه الطبراني (336) حدثنا أحمد بن رِشْدينَ قال: حدَّثني سعيد بن خالد الربعي المَروزي قال: نا عيسى بن يونس، عن إبراهيم بن يزيد، عن أيُّوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر به.
وسنده ضعيف؛ ففيه أحمد بن رِشْدين.
قال ابن أبي حاتم: سَمِعتُ منه بمصر، ولم أحدِّث عنه لما تكلَّموا فيه؛ "الجَرح والتعديل" (153).
قال ابن عدي: كذَّبوه، وأنكرتُ عليه أشياء.
قال ابن عدي: وكان صاحبَ حديث كثير، حدَّث عنه الحافظ بحديث مصر، وأنكَرت عليه أشياء مما رواه، وكان آل بيت رشدين خُصُّوا بالضَّعف من أحمد إلى رشدين، وهو مِمَّن يُكتَب حديثه مع ضعفه؛ "الكامل" (1 / 198) "الميزان" (1 / 278) "لسان الميزان" (1 / 594).
ويَجْبُره ما رواه البيهقيُّ في "شُعَب الإيمان" (2869)، أخبرنا أبو سعد الماليني، حدثنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، حدَّثنا محمد بن يوسف الفربرِيُّ، حدَّثنا علي بن خشرم، حدثنا عيسى بن يونس، عن إبراهيم بن يزيد، عن أيُّوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((ألا هل عسى رجل أن يتَّخذ الصبة من الغنم على رأس ميلين أو ثلاثة، فتأتي عليه الجمعة فلا يشهدها، ثم تأتي عليه الجمعة فلا يشهدها، ثم تأتي عليه الجمعة فلا يشهدها فيُطبع على قلبه)).
وسنَدُ الطَّبراني فيه مجهولان؛ هما سعيد بن خالد الربعي المروزي وإبراهيم بن يزيد، كما قال الهيثمي في "مجمع الزوائد".
أما سند البيهقي ففيه مجهول واحد، وهو إبراهيم بن يزيد، ولعلَّه إبراهيم بن موسى بن يزيد بن زاذان التميمي، ولعلَّه قد نُسِب إلى جده؛ حيث وجدتُه ضمن شيوخ عيسى بن يونس، فإن كان هو فسَنَدُ البيهقي رجاله ثِقَات، وإلاَّ فيصح بما قبله، والله أعلم.
والشاهد الآخر مرسل:
رواه ابن أبي شيبة في "مصنَّفه" (5581) حدثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن محمد بن عبَّاد بن جعفر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس الميلين أو ثلاثة، فتكون الجمعة فلا يشهدها، ثم تكون فلا يشهدها، فيَطبع الله على قلبه)).
قال الحافظ في "النُّزهة": "ومتى توبِع سيِّئُ الحفظ بمعتَبَر، وكذا المستور، والمرسل، والمدلِّس: صار حديثهم حسَنًا لا لذاته، بل بالمجموع".
[76] البخاري 902.
[77] قال الحافظ في "الفتح" (2 / 28) : "قوله: "وبعض العوالي" كذا وقع هنا؛ أيْ: بين بعض العوالي والمدينة المسافة المذكورة، وروى البيهقي حديث الباب من طريق أبي بكر الصَّغاني عن أبي اليماني شيخ البخاري فيه، وقال في آخِرِه: "وبُعد العوالي" بِضَمِّ الموحَّدة وبالدال المهْمَلة، وكذلك أخرجه المصنِّف في الاعتصام تعليقًا، ووصَلَه البيهقيُّ من طريق اللَّيث عن يونس عن الزُّهري، لكن قال: "أربعة أميال أو ثلاثة"، وروى هذا الحديث أبو عوانة في "صحيحه"، وأبو العباس السَّرَّاج، جميعًا عن أحمد بن الفرج أبي عتبة عن محمد بن حمير عن إبراهيم بن أبي عَبْلة عن الزُّهري، ولفظه: "والعوالي من المدينة على ثلاثة أميال"، أخرجه الدارقطني عن المحاملي عن أبي عتبة المذكور بسنده فوقع عنده "على ستة أميال"، ورواه عبدالرزَّاق عن مَعْمر عن الزُّهري، فقال فيه: "على ميلين أو ثلاثة".
فتحَصَّل من ذلك أن أقرب العوالي من المدينة مسافة ميلين، وأبعدها مسافة ستة أميال إن كانت رواية المحاملي محفوظة، ووقع في "المدوَّنة" عن مالك: "أبعد العوالي مسافة ثلاثة أميال"، قال عياض: كأنه أراد معظم عمارتها، وإلاَّ فأبعدها ثمانية أميال؛ انتهى، وبذلك جزم ابن عبدالبر وغير واحد آخرهم صاحب "النهاية"، ويحتمل أن يكون أراد أنه أبعد الأمكنة التي كان يَذهب إليها الذَّاهب في هذه الوقعة، والعوالي عبارة عن القُرى المجتمعة حول المدينة من جهة نَجْدِها، وأما ما كان من جهة تِهامَتِها فيُقال لها: السَّافلة؛ اهـ.
[78] عبدالرزَّاق في "مصنَّفه" (5173).
[79] عبدالرزَّاق في "المصنف" (5172).
[80] "شرح القواعد الفقهية"؛ للزرقا (1 / 322).
[81] "المُحلَّى" (5 / 526).
[82] أخرجه الترمذي (502) وقال: سمعت أحمد بن الحسن يقول: كنا عند أحمد بن حنبل، فذكَروا على من تجب الجمعة، فلم يذكر أحمد فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، قال أحمد بن الحسن: فقلتُ لأحمد بن حنبل: فيه عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أحمد: عن النبي - صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: نعم، قال أحمد بن الحسن: حدثنا حجاج بن نُصير، حدثنا معارك بن عبَّاد، عن عبدالله بن سعيد المَقْبُري، عن أبيه، فذَكَره.
قال: فغضب عليَّ أحمدُ بن حنبل، وقال لي: استغفِرْ ربَّك، استغفر ربَّك.
قال أبو عيسى: إنما فعل أحمد بن حنبل هذا؛ لأنَّه لم يَعُدَّ هذا الحديث شيئًا، وضعَّفه لحال إسناده.
وآفة هذا الحديث كلٌّ من حجَّاج بن نصير ومعارك بن عبَّاد وعبدالله بن سعيد المَقبُري.
فأمَّا حجاج بن نصير فضعيف.
قال أبو حاتم: منكر الحديث، ضعيف الحديث، تُرِك حديثه، كان الناس لا يُحدِّثون عنه.
وقال البخاري: يتكلَّمون فيه.
وقال في موضع آخَر: سكتوا عنه.
وقال النَّسائي: ضعيف.
وقال في موضع آخر: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه.
وذكره أبو حاتم بن حبان في كتاب "الثقات"، وقال: يخطئ ويهم؛ تهذيب الكمال (1130).
وأما معارك بن عباد:
قال فيه البخاري: لم يصح حديثه، وقال أبو زرعة: واهي الحديث.
وقال أبو حاتم: أحاديثه منكرة.
وقال الدارقطني: ضعيف؛ "تهذيب الكمال" (6039).
وعبد الله بن سعيد المقبري متروك.
قال عمرو بن علي: كان يحيى بن سعيد وعبدالرحمن بن مهدي لا يحدِّثان عنه.
وقال أبو قدامة، عن يحيى بن سعيد: "جلستُ إلى عبدالله بن سعيد بن أبي سعيد مَجلِسًا، فعرفتُ فيه"، يعني: الكذب.
وقال أبو طالب، عن أحمد بن حنبل: منكر الحديث، متروك الحديث.
وكذلك قال عمرو بن علي.
وقال عبَّاس الدُّوري، عن يحيى بن معين: ضعيف.
وقال عثمان بن سعيد الدَّارمي، عن يحيى: ليس بشيء.
وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى: لا يُكتب حديثه.
وقال أبو زُرعة: ضعيف الحديث، لا يُوقف منه على شيء.
وقال أبو حاتم: ليس بقوي.
وقال البخاري: تركوه.
وقال النَّسائي: ليس بثقة، تركه يحيى بن سعيد، وعبدالرحمن بن مهدي.
وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث؛ "تهذيب الكمال" (3305).
وللحديث شاهد يزيده ضعفًا كما في "أخبار أصبهان" من طريق عبدالواحد بن ميمون، مولى عروة، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((مَن لَزِمته الجمعة فلْيَغتسل، والجمعة على مَن آواه الليل))، وآفته عبدالواحد بن ميمون، قال فيه البخاري: منكر الحديث؛ "الميزان" (5301) وزاد في "اللِّسان": قال البرقاني عن الدارقطني: متروك صاحب مناكير.
قال النَّسائي في "الكُنى": ليس بِثَقة، وقال الحاكم: أبو أحمد ليس بالقوي عندهم، وقال عثمان الدَّارمي عن ابن معين: ليس بذاك.
قال الحافظ في "التلخيص" (2 / 111): "وله شاهدٌ من حديث أبي قلابة مُرسَل، رواه البيهقي".
قلتُ: يقوِّيه إذا كانت الطرق ضعيفة ضعفًا محتملاً، وليس كذلك؛ فالطرق السابقة لا تصلح في الشواهد والمتابعات.
[83] "الفتح" (2 / 385).
[84] أخرجه ابن ماجه (1064) وأحمد (257) وابن خزيمة (1425) وغيرهما.
[85] "المحرَّر في الفقه" (1 / 153) "شرح منتهى الإرادات" (2 / 23).
[86] "التمهيد" (16 / 322) "القوانين الفقهية" (63).
[87] "الوسيط في المذهب" (2 / 293) "المجموع" (4 / 402).
[88] "بدائع الصنائع" (1 / 206) "البحر الرائق" (2 / 246).
[89] مسلم (877) والترمذي (519) وأبو داود (1124) ابن ماجه (1118).
[90] مسلم (879) والترمذي (520) والنسائي (956) أبو داود (1047) ابن ماجه (821).
[91] رواه أبو داود والنسائي وأحمد.
[92] مسلم (878).
[93] مالك (243).
[94] "الأوسط" لابن المنذر - كتاب صفة الصلاة - جماع أبواب الصلاة قبل صلاة الجمعة - ذكر سجود المرء على ظهر أخيه في حال الزحام: "وقال مجاهد: يسجد على فخذ أخيه إذا لم يستطع من الزحام، وممن رأى أن يسجد على ظهر أخيه إذا لم يقدر على السجود بالأرض من الزحام سفيانُ الثَّوري، والشافعيُّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وقال أصحاب الرَّأي: إنْ فَعَل ذلك فصلاته تامَّة، ورُوِّينا عن الحسن البصري أنه قال: إن شِئتَ فاسجد على ظهر الرجل، وإن شئت فإذا رفع الإمام فاسجد، وقالت طائفة: يُمسِك عن السجود، فإذا رفعوا سجد، كذلك قال عطاء، والزهري، وفعل ذلك حجَّاجُ بن أرطأة، والحكم بن عُتَيبة، وكان مالك يرى أن يعيد الصلاة إن سجد على ظهر أخيه، وإن كانت جمعة أعادها أربعًا، وفيه قول ثالث: وهو أن يومئ إيماء إذا لم يقدر على السجود، هذا قول نافع مولى ابن عمر، قال أبو بكر: وبقول عمر بن الخطاب نقول؛ لأنَّه سجود في حال ضرورة على قدْر طاقة السَّاجد، ولم يُكلَّف المصلِّي إلا قدر طاقته".
[95] "المبسوط" (1 / 190) "بدائع الصنائع" (1 / 210) "البحر الرائق شرح كَنْز الدَّقائق" (1 / 611) "مراقي الفلاح" (87) "حاشية الطحطاوي" (232).
[96] "المجموع" (4 / 433) "روضة الطالبين" (1 / 523) "مُغْني المحتاج" (1 / 447) "فتْح الوهَّاب" (1 / 140).
[97] "المُغْني" (3 / 186) "الشَّرح الكبير مع الإنصاف" (5 / 209) "المُحرَّر في الفقه" (1 / 103) "شرح منتهى الإرادات" (2 / 16).
[98] أخرجه عبدالرزاق في "مصنَّفه" (5485) وابن أبي شيبة (2741) وإسناده صحيح.
[99] "المدوَّنة الكبرى" (1 / 228-229) "مواهب الجليل" (3 / 479) "حاشية الدُّسوقي" (2 / 8).
[100] "التِّرمذي" (39).
[101] "المجموع" (4 / 436).
[102] "المُحلَّى" (5 / 78).
[103] البُخاري (7288) ومسلم (6187).
التعليقات
0 التعليقات
يتم التشغيل بواسطة Blogger.