جديد الموقع
recent

ما حكم الماء القليل الراكد إذا لاقته النجاسة ؟

قبل الخوض في تفاصيل هذه المسألة، يحسن بنا أن نبين أهميتها.
فقد قال الشوكاني عنها : وَهَذَا الْمَقَامُ مِنْ الْمَضَايِقِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إلَى مَا هُوَ الصَّوَابُ فِيهَا إلَّا الْأَفْرَادُ.

أولا : مذاهب العلماء 
اختلف العلماء في الماء القليل إذا لاقته النجاسة ولم تغيره،
1- قيل : ينجس، وهو مذهب الأحناف والشافعية وقول عند الحنابلة، مع اختلافهم في تحديد القليل من الماء.
2- قيل : لا ينجس إلا بتغير طعمه أو لونه أو ريحه، وهو قول في مذهب مالك رجحه ابن عبد البر، ورواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب الظاهرية واختاره جمع من المحققين منهم ابن تيمية رحمه الله، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة السلفية بنجد.
3- قيل : يفرق بين بول الآدمي أو عذرته، فإنها تنجس الماء ما لم يشق نزحه، وبين غيرها من النجاسات، فإنه ينجس بملاقاتها إذا كان دون القلتين، فإن كان قلتين فأكثر فإنها لا تنجسه، وهو قول عند الحنابلة.

ثانيا : حد القليل الذي ينجس عند القائلين بالتنجس بمجرد الملاقاة:
فحد القليل عند الأحناف: أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حركه آدمي من أحد طرفيه، لم تسْرِ الحركة إلى الطرف الثاني منه.والمعتبر في معرفة خلوص النجاسة إلى الطرف الآخر،إما غالب ظن المبتلي، أو حركة المغتسل، أو المتوضئ، أو حركة اليد من غير وضوء ولا اغتسال، أو من خلا مساحة عشرة أذرع في عشرة أذرع، أو يوضع صبغ في الماء فإن نفذ إلى الطرف الآخر تنجس.
أما حد القليل عند المالكية : ما كان قدر آنية الوضوء أو الغسل، فما دونها. فإذا حلت فيه نجاسة قليلة كالقطرة، ولم تغيره، فإنه يكره استعماله في رفع حدث أو إزالة خبث، أو متوقف على طهارة كالطهارة المسنونة والمستحبة، ولا كراهة في استعماله في العادات.
أما حد القليل عند الشافعية والمشهور عند الحنابلة: هو القلتان، من قُلال هجَر: وهو خمس قِرَب، في كل قربة مئة رطل عراقي، فتكون القلتان خمس مئة رطل بالعراقي، أي 93.75 صاعا.

ثالثا : الأدلة والمناقشات :

1- أدلة القائلين بنجاسة الماء بمجرد ملاقاته للنجاسة ولو لم تغيره:
- استدل الأحناف على مذهبهم بغلبة الظن، وما دام أن غلبة الظن غير منضبطة فقد اجتهدوا في وضع أمور تضبطها، وهي السابق ذكرها في تحديدهم لمقدار القليل.
- قوله صلّى الله عليه وسلم : «إذا بلغ الماء قلتين، لم يحمل الخبَث» والقلة هي الجرة، قال ابن تيمية رحمه الله : أكثر أهل العلم بالحديث على أنه حديث حسن، ويحتج به ، وأجابوا عن كلام من طعن فيه.
- وقد صحح الحديث ابن خزيمة، وابن حبان، وابن منده، والحاكم، والبيهقي، والخطابي، والنووي، والذهبي، وابن حجر، والسيوطي، وأحمد شاكر، والألباني. 
- قالوا فدل الحديث بمفهومه على أن ما دون القلتين ينجس.
- فلو كان الماء لا ينجس إلا بالتغير لم يكن للتحديد بالقلتين فائدة.
- واستدلوا بما جاء في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه" ولمسلم "ثم يغتسل منه"
- فالنهي عن البول دليل على تنجسه ولو كان التغير شرطا لذكره.
- واستدلوا بما رواه مسلم أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال :« طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ ».وفي الرواية الأخرى : « إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ ».
- قالوا فالأمر بالإراقة دليل على أن الإناء تنجس بمجرد الملاقاة، ولم يشترط التغير.
- واستدلوا بما جاء في الصحيحين أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ ».
- قالوا معلوم أن النجاسة تكون على يده وتخفى عليه، ولا تغير الماء.

2- دليل القائلين بأن العبرة بتغير اللون أو الطعم أو الريح :
- استدلوا بعموم قوله جل وعلا : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا) ووجه الدلالة أن الماء مطلق بمعنى أنه باق على أصل خلقته الأولى ولم يتغير، فكيف نعدل إلى البدل ولم يتغير لونه أو طعمه أو رائحته.
- قوله تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا) ولفظ ماء هنا مطلق وصفه بوصف الطهورية، فلا يزال عنه هذه الصفة مادام مطلقا ولم يرد دليل يقيده بكونه قليلا أو كثيرا، فيبقى على أصله والعبرة بالتغير لونا أو طعما أو رائحة.ما جاء في المسند 
- من حديث بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال : انتهيت إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو يتوضأ من بئر بضاعة فقلت يا رسول الله توضأ منها وهى يلقى فيها ما يلقى من النتن فقال إن الماء لا ينجسه شيء . وصححه الألباني في الإرواء، وقال شعيب الأرنؤوط : صحيح بطرقه وشواهده. 
- قالوا هو منطوق في القليل والكثير وخرج المتغير بالنجاسة بالإجماع فلم يبق إلا الطهور.
- قالوا أن الأصل في الماء الطهورية إلا بدليل، ومادام الماء لم ينجس فهو باق على أصله ولا ينقله عن هذا الأصل إلا يقين بتغير لونه أو رائحته أو طعمه.
- قالوا استحالت النجاسة في الماء لا تؤثر فيه، مثل استحالة قطرة خمر في الماء لم يستحق الجلد بشربه، وكذلك استحالة قطرة من لبن المرأة وشربه الرضيع خمس رضعات لم تنتشر فيه الحرمة، فكذلك النجاسة.
- ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : دعوه وأهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين.
- وهذا يدل على ما قدمنا أن الماء إذا صب على البول فغمره وأذهب عينه وصفاته حكم بطهارة المغسول وهو حجة على أبي حنيفة والشافعي وغيرهما في قولهم أن قليل الماء ينجسه قليل النجاسة ، وإن لم تغيره وهذا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو أرفع المواضع التي يجب تطهيرها ، وقد حكم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بصب دلو من ماء على ما نجس منه بالبول، ولا معنى له إلا تطهيره للمصلين فيه.
- وأجابوا عن أدلة الفريق الأول : 
- قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الماء لا ينجسه شيء" منطوق في القليل والكثير، أما حديث القلتين، فهو مفهوم في القليل، فيقدم المنطوق على المفهوم.
- وقالوا أن سبب تحديده بالقلتين، هو أنه غالبا ما يدفع هذا المقدار النجاسة، وعلى قولكم أن الكثير لا ينجس، مدفوع بكون هذا الكثير إذا تغير ينجس بالإجماع، ومادام التغير معتبر في الكثير، فلم يلغى في القليل، وإذا حُمل الكثير على الغالب وهو منطوق فالأولى حمل القليل عليه وهو مفهوم لأن المفهوم أضعف.
- أما الجواب عن الحديث : "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه" ولمسلم "ثم يغتسل منه" ، فهو ليس صريحا، ولم ينص على أنه تنجس، لأن النهي لا يستلزم التنجيس.
- والنهي عن البول في الماء الدائم هو سد لذريعة التنجيس من كثرة البول، كما أن الاغتسال فيه تستقذره النفوس.
- من جهة أخرى فالماء الدائم يشمل القلتين وغيرها، وما ذكره الأحناف في حد القليل لا دليل عليه، فقال الشوكاني : وَلِلنَّاسِ فِي تَقْدِيرِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَقْوَالٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ فَلَا نَشْتَغِلُ بِذِكْرِهَا.
- قال النووي في المجموع : نقل أصحابنا عن داود بن علي الظاهري الأصبهاني رحمه الله مذهبا عجيبا، فقالوا انفرد داود بأن قال لو بال رجل في ماء راكد، لم يجز أن يتوضأ هو منه، لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يتوضأ منه، وهو حديث صحيح سبق بيانه، قال: ويجوز لغيره، لأنه ليس بنجس عنده، ولو بال في إناء ثم صبه في ماء، أو بال في شط نهر ثم جرى البول إلى النهر، قال يجوز أن يتوضأ هو منه، لأنه ما بال فيه بل في غيره، قال ولو تغوط في ماء جار، جاز أن يتوضأ منه لأنه تغوط ولم يبل.وهذا مذهب عجيب وفي غاية الفساد فهو أشنع ما نقل عنه إن صح عنه رحمه الله. وفساده مغن عن الاحتجاج عليه، ولهذا أعرض جماعة من أصحابنا المعتنين بذكر الخلاف عن الرد عليه بعد حكايتهم مذهبه، وقالوا فساده مغن عن إفساده وقد خرق الإجماع في قوله في الغائط، إذ لم يفرق أحد بينه وبين البول، ثم فرقه بين البول في نفس الماء، والبول في إناء ثم يصب في الماء من أعجب الأشياء.
- أما الجواب على حديث ولوغ الكلب:
- فقالوا أن زيادة فليرقه شاذة، غير أن تنجس الإناء يثبت بالأمر بغسله سبع مرات، غير أن للكلب حكم خاص من التسبيع في الغسلات واستعمال التراب.
- أما الجواب عن « إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ ».
- فهو نهي علته تعبدية، ولا يقتضي التنجيس.
- كما أن الشافعية الذين استدلوا به، يرون أن هذا الماء مكروه وتصح الطهارة به، فكيف تصح الطهارة به، وهو نجس.

رابعا : القول المختار.
والذي يظهر أن الراجح هو أن الماء لا ينجس إلى بالتغير، قال ابن القيم في إعلام الموقعين: فالذي تقتضيه العقول، أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس، فإنه باق على أصل خلقته، وهو طيب، فيدخل في قوله:(يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) وهذا هو القياس في المائعات جميعها، إذا وقع فيها نجاسة فاستحالت بحيث لم يظهر لها لون ولا طعم ولا ريح .
والله أعلم.


جمع :أ. عبد الجليل مبرور

موقع بحوث شرعية

موقع بحوث شرعية

هناك 9 تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.