جديد الموقع
recent

ما لجرح بميت إيلام

ما لجرح بميت إيلام
 نظرا للهجمة الشرسة التي يتعرض لها إخواننا في غزة من المرابطين على الثغور ، فقد ارتأينا نقل هذا البيان لعل الناس ينتفضون لألم الجرح الذي أصيبت به الأمة اليوم التي أصبحت غثاء كغثاء السيل حينما استشرى فيها هذا المرض الخطير أي مرض الوهن ، أما أن يصدر هذا من جهال الأمة فأمر بديهي لكن أن تخاط أفواه العلماء وأن يصبح البيت الأبيض هو من يفتي المؤمنين بالجهاد فهذا شيء لم تشهده الأمة عبر تاريخها الذي يزخر بعلماء سحبوا بالخيول على الأرض ولم يضعفوا ، جلدوا بالسياط ولم يستكينوا ، قطعت رؤوسهم ولم يرتابوا ، سلخوا أحياء ولم يخافوا ، أما اليوم فعلماؤها صاروا حربا على الإسلام يداهنون الظالم و يظلمون المظلوم ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف ،ونسوا كيف خاطب الفضيل  بن عياض وسفيان الثوري هارون الرشيد ، وكيف خاطب الحسن البصري عمر بن عبد العزيز ، وأن السرخسي أملى المبسوط من جب سجن فيه بسبب نصحه للسلطان ، واليوم من ناصح الحكام فهو من الخوارج ، وهم يعلمون أن ضريبة العلم غالية فإما أن يرضى عنك الله بسخط الجبابرة أو يرضى عنك الجبابرة بسخط الله فأسهل شيء أن تكون عالما لكن الصعب أن تكون بعلمك عاملا .

عندما كان العز بن عبد السلام في دمشق كان الحاكم رجلاً يقال له: "الملك الصالح إسماعيل" من بني أيوب، فولّى العز بن عبد السلام خطابة الجامع الأموي، وبعد فترة قام الملك الصالح إسماعيل هذا بالتحالف مع النصارى الصليبيين، أعداء الله ورسله، فحالفهم وسلّم لهم بعض الحصون،
كقلعة الشَّقِيف(1)، وصَفَد(2)، وبعض الحصون، وبعض المدن
وذلك من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب في مصر.
فلما رأى العز بن عبد السلام هذا الموقف الخائن الموالي لأعداء الله ورسله - عليهم السلام- ، لم يصبر فصعد على المنبر، وتكلّم وأنكر على الصالح إسماعيل تحالفه مع الصليبيين، وقالها له صريحة، وقطع الدعاء له في الخطبة، بعدما كان اعتاد أن يدعو له(3)، وختم الخطبة بقوله: "اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا تُعِزُّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر"(4). ثم نزل.
وعرف الأمير الملك الصالح إسماعيل أنه يريده، فغضب عليه غضبًا شديدًا، وأمر بإبعاده عن الخطابة، وسجنه، وبعدما حصل الهرج والمرج، واضطرب أمر الناس، أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة بعد ذلك(5).
وخرج العز بن عبد السلام من دمشق مغضبًا إلى جهة بيت المقدس، وصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة أيضًا والتقى أمراء النصارى قريبًا من بيت المقدس، فأرسل رجلاً من بطانته وقال له: اذهب إلى العز بن عبد السلام، ولاطِفْهُ ولايِنْهُ بالكلام الحسن، واطلب منه أن يأتي إليّ، ويعتذر مني، ويعود إلى ما كان عليه، فذهب الرجل إلى العز.بن.عبد.السلام وقال له: ليس بينك وبين أن تعود إلى منصبك وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه، إلا أن تأتي وتُقَبِّل يد السلطان لا غير، فضحـك     العز بن عبد السلام ضحكة السـاخر وقال:   "يا مسكين، والله ما أرضى أن يُقَبِّلَ الملك الصالح إسماعيل يدي فضلاً عن أن أُقَبِّلَ يده، يا قومُ أنا في واد، وأنتم في واد آخر، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به".
قال: إذًا نسجنك، فقال: "افعلوا ما بدا لكم". فأخذوه وسجنوه في خيمة، فكان يقرأ فيها القرآن ويَتَعَبَّد ويذكر الله تعالى.
وفي إحدى المرات كان الملك الصالح إسماعيل قد عقد اجتماعاً مع بعض زعماء النصارى الصليبيين، كان اجتماعهم قريباً من العز بن عبد السلام بحيث يسمعون قراءته للقرآن، فقال: هل تسمعون هذا الذي يقرأ؟ قالوا: نعم. فقال متفاخرًا: هذا هو أكبر قساوسة المسلمين سَجَنَّاه؛ لأنه اعترض علينا في محالفتنا لكم، وتسليمنا لكم بعض الحصون والقلاع، واتفاقنا معكم على قتال المصريين.
فقال له ملوك النصارى: والله لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقته(6)!
لو كان عندنا رجل بهذا الإخلاص للأمة وبهذه القوة، وبهذه الشجاعة لكُنَّا نغسل رجليه، ولشَرِبْنا الماء الذي غسلنا به رجليه، فأصيب الملك إسماعيل بالخيبة والذلِّ، وكانت هذه بداية هزيمته وفشله، وجاءت جنود المصريين، وانتصرت عليه وعلى من كانوا متحالفين معه من الصليبيين، وأفرجت عن الإمام العز بن عبد السلام.
هذا موقف صرّح فيه العز بن عبد السلام - رحمه الله - بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على رؤوس المنابر، ورأى أن هذا الذي يسعه، مع أنه كان يستطيع غير ذلك، ولكنه رأى أن هذا هو الأسلوب المناسب، خاصة أن الصليبيين في تلك الوقعة دخلوا شوارع دمشق ومدنها، وتجوَّلوا في أسواقها ودكاكينها، وكانوا يشترون الأسلحة من المسلمين؛ ولذلك وُجِّه إليه الاستفتاء: هل يجوز أن نبيع السلاح للنصارى؟
فأفتى - رحمه الله - بأن بيع السلاح إليهم لا يجوز؛ لأن من يبيعهم السلاح يعلم أنهم سوف يصوِّبون هذه الأسلحة إلى صدور المسلمين.

اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وحيلتنا وهواننا على إخواننا .
 

(1)             قلعة الشَّقِيف: قلعة حصينة جدًّا في كهف من الجبل، قرب بانياس من أرض دمشق. انظر: معجم البلدان (3/356).
(2)             صَفَد: مدينة في جبال عاملة المطلَّة على حمص بالشام، وهي من جبال لبنان. انظر: معجم البلدان (3/412).
(3)             قال ابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية (2/110): ولي الخطابة بدمشق فأزال كثيرًا من بدع الخطباء، ولم يلبس سوادًا ولا سجع خطبته؛ بل كان يقولها مسترسلاً، واجتنب الثناء على الملوك بل كان يدعو لهم". اهـ.
(4)             انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/243).
(5)             طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/110)، وقد شارك العز بن عبد السلام علماء آخرين في الإنكار على الملك الصالح إسماعيل من هؤلاء أبو عمرو
ابن الحاجب شيخ المالكية، حيث اشتدّ ابن الحاجب في الإنكار على الملك فاعتقله الملك مدة ثم أطلقه وألزمه بيته. انظر: البداية والنهاية (17/ 251، 300).
(6)             انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/243).


اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وحيلتنا وهواننا على إخواننا .
التعليقات
0 التعليقات
يتم التشغيل بواسطة Blogger.