جديد الموقع
recent

بعض أحكام صلاة الجمعة 2

عبد الجليل مبرور

المقدمـــة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله، وصحبه، ومن سار على نهجه.
أما بعد :
فهذا بحث نتحدث فيه عن بعض أحكام الجمعة وقد علته من بابين :
الباب الأول : فضل الجمعة وخصائصها:
الفصل الأول : فضلها
المبحث الأول : متى شرعت صلاة الجمعة ؟
فرع : ضبط لفظ الجمعة وسبب تسميتها
المبحث الثاني : الحكمة من تشريعها
المبحث الثالث: خصائصها
المبحث الرابع : أيهما أفضل يوم الجمعة أم يوم النحر ؟
المبحث الخامس : وقت صلاة الجمعة
الباب الثاني : الأعـذار المسقـطة لوجوبـها، وصـلاة الظهـر بعدهـا
الفصل الأول : الأعـذار المسقطـة لوجـوبها
الفصل الثاني : صـلاة الظهـر بعد الجمـعـة






الباب الأول : فضل الجمعة وخصائصها:
الفصل الأول : فضلها
قد ثبت في فضل صلاة الجمعة أحاديث كثيرة نذكر منها :
-   عن أبي هريرة يقول قال رسول الله e« خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه  أدخل الجنة وفيه أخرج منها »[1]
-        عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول e: " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى  رمضان . مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر "[2]
- وعنه أيضا قال : قال رسول الله e : " من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر  له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام [3]"
- عن أبي سعيد الخدري :حدثه أنه سمع رسول الله  rيقول:( خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل  الجنة : من عاد مريضا وشهد جنازة وصام يوما وراح يوم الجمعة وأعتق رقبة ) [4]
- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : عن النبي  rقال : يحضر الجمعة ثلاثة : رجل يحضرها يلغو  فهو حظه منها و رجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله فإن شاء الله أعطاه و إن شاء منعه و رجل حضرها بوقار و إنصات و سكون و لم يتخط رقبة مسلم و لم يؤذ أحدا فهو كفارة له إلى الجمعة التي تليها و زيادة ثلاثة أيام لأن الله يقول : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [5]
- عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله r:  " إن الله يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها و  يبعث يوم الجمعة زهراء منيرة أهلها يحفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها تضيء لهم يمشون في ضوئها ألوانهم كالثلج بياضا و ريحهم يسطع كالمسك يخوضون في جبال الكافور ينظر إليهم الثقلان ما يطرقون تعجبا حتى يدخلوا الجنة لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون "[6]
-     عن أبي لبابة البدري بن عبد المنذر أن رسول الله rقال : "سيد الأيام يوم الجمعة وأعظمها عنده  وأعظم عند الله عز و جل من يوم الفطر ويوم الأضحى وفيه خمس خلال خلق الله فيه آدم وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض وفيه توفى الله آدم وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئا إلا آتاه الله تبارك وتعالى إياه ما لم يسأل حراما وفيه تقوم الساعة ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا هن يشفقن من يوم الجمعة "[7]
-     عن أبي هريرة أن رسول الله  rقال : ( لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة وما  من دابة إلا وهي تفزع يوم الجمعة إلا هذين الثقلين الجن والإنس ) [8]
-     عن أبى الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه ».[9]

المبحث الأول : متى شرعت صلاة الجمعة ؟
ذهب جمهور العلماء إلى القول بأن صلاة الجمعة فرضت بالمدينة ، لكون سورة الجمعة مدنية [10]، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها قبل الهجرة .وقد وجدت أن الحافظ ابن رجب رحمه الله المحقق المتفن قد بحثها بما لا مزيد عليه ، فقال :
" وخرج ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله ، أن النبي  rخطبهم ، فقال في خطبيه : (( إن الله  فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا ، في يومي هذا ، في شهري هذا ، من عامي هذا الى يوم القيامة ، فمن تركها في حياتي أو بعدي ، وله إمام عادل أو جائر ، استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله ، ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ولا زكاة له ، ولا حج له ، ولا صوم له ، ولا بركة حتى يتوب ، فمن تاب تاب الله
عليه )) .
وفي إسناده ضعف واضطراب واختلاف ، قد أشرنا إلى بعضه فيما تقدم في ((أبواب الإمامة ))وفيه : دليل على أن الجمعة إنما فرضت بالمدينة ؛ لأن جابرا إنما صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد خطبته بالمدينة ، وهذا قول جمهور العلماء .
ويدل عليه -أيضا - : أن سورة الجمعة مدنية ، وأنه لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة بمكة قبل هجرته .
ونص الإمام أحمد على أن أول جمعة جمعت في الإسلام هي التي جمعت بالمدينة مع مصعب بن عمير.
وكذا قال عطاء والأوزاعي وغيرهما .وزعم طائفة من الفقهاء : أن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة ، وأن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يصليها بمكة قبل أن يهاجر .
واستدل لذلك : بما خرجه النسائي في ((كتاب الجمعة )) من حديث المعافى بن عمران ، عن إبراهيم بن طهان ، عن محمد ابن زياد ، عن أبي هريرة قال : إن أول جمعة جمعت -بعد جمعة جمعت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة -بجواثاء بالبحرين -قرية لعبد القيس .
وقد خرجه البخاري -كما سيأتي في موضعه - من طريق أبي عامر العقدي ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس ، أن أول جمعة جمعت -بعدجمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين.
وكذا رواه وكيع ، عن إبراهيم بن طهمان ، ولفظه : إن أول جمعة جمعت في الإسلام -بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله - r- بالمدينة -لجمعة جمعت بجواثاء - قرية من قرى البحرين .
خرجه أبو داود .
وكذا رواه ابن المبارك وغيره ، عن إبراهيم بن طهمان .
فتبين بذلك : أن المعافى وهم في إسناد الحديث ومتنه ، والصواب : رواية
الجماعة ، عن إبراهيم بن طهمان .
ومعنى الحديث ، أن أول مسجد جمع فيه -بعد مسجد المدينة -: مسجد جواثاء ، وليس معناه : أن الجمعة التي جمعت بجواثاء كانت في الجمعة الثانية من الجمعة التي جمعت بالمدينة ، كما قد يفهم من بعض ألفاظ الروايات ؛ فإن عبد القيس إنما وفد على
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ، كما ذكره ابن سعد ، عن عروة بن الزبير وغيره .
 وليس المراد به -أيضا- أن أول جمعة في الإسلام في مسجد المدينة ، فإن أول جمعة جمعت بالمدينة في نقيع الخضمات ، قبل أن يقدم النبي - r- المدينة ، وقبل أن يبني مسجده .
يدل على ذلك : حديث كعب بن مالك ، أنه كان كلما سمع أذان الجمعة استغفر لأسعد بن زرارة ، فسأله ابنه عن ذلك ، فقال : كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول الله- r- من مكة  في نقيع الخضمات ، في هزم النبيت ، من حرة بني بياضة ، قيل له : كم كنتم يومئذ ؟ قال : أربعين رجلا .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه -مطولا .
وروى أبو إسحاق الفزاري في (( كتاب السير )) له ، عن الأوزاعي ، عمن
حدثه ، قال : بعث رسول الله - r- مصعب بن عمير القرشي إلى المدينة ، قبل أن يهاجر النبي - r -  ، فقال : (( أجمع من بها من المسلمين ، ثم انظر اليوم الذي تجمر فيه اليهود لسبتها ، فإذا مال النهار عن شطره فقم فيهم ، ثم تزلفوا إلى الله بركعتين )) .
قال : وقال الزهري : فجمع بهم مصعب بن عمير في دار من دور الأنصار ، فجمع بهم وهم بضعة عشر .
قال الأوزاعي : وهو أول من جمع بالناس .
وقد خرج الدارقطني -أظنه في ((أفراده)) -من رواية أحمد بن محمد بن غالب الباهلي : نا محمد بن عبد الله أبو زيد المدني : ثنا المغيرة بن عبد الرحمن : ثنا مالك ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : أذن رسول الله - r- بالجمعة قبل أن يهاجر ، ولم يستطع رسول الله - صلى الله  عليه وسلم - أن يجمع بمكة ولا يبين لهم ، وكتب إلى مصعب بن عمير : (( أما بعد ، فانظر اليوم الذي تجمر فيه اليهود لسبتهم ، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم ، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله بركعتين )) .
قال : فهو أول من جمع مصعب بن عمير ، حتى قدم رسول الله - r- المدينة ، فجمع عند الزوال من  الظهر ، وأظهر ذلك .
وهذا إسناد موضوع ، والباهلي هو : غلام خليل ، كذاب مشهور بالكذب ، وإنما هذا أصله من مراسيل الزهري ، وفي هذا السياق ألفاظ منكرة .
وخرج البيهقي من رواية يونس ، عن الزهري ، قال : بلغنا أن أول ما جمعت الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله - r- ، فجمع بالمسلمين مصعب بن عمير .
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر ، عن الزهري ، قال : بعث رسول الله - r- مصعب بن  عمير إلى أهل المدينة ليقرئهم القرآن ، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع بهم ، فاذن له رسول الله - r- ، وليس يومئذ بأمير ، ولكنه انطلق يعلم أهل امدينة.
وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : من أول من جمع ؟ قال : رجل من بني عبد الدار -زعموا- ، قلت : أفبأمر النبي - r- قال : فمه .
وخرجه الأثرم من رواية ابن عيينة ، عن ابن جريج ، وعنده : قال : نعم ، فمه .قال ابن عيينة : سمعت من يقول : هو مصعب بن عمير .
وكذلك نص الإمام أحمد في- رواية أبي طالب - على أن النبي - r- هو امر مصعب بن عمير أن يجمع  بهم بالمدينة .
ونص أحمد -أيضا- على أن أول جمعة جمعت في الإسلام هي الجمعة التي جمعت بالمدينة مع مصعب بن عمير .
وقد تقدم مثله عن عطاء والأوزاعي .
فتبين بهذا : أن النبي - r- أمر بإقامة الجمعة بالمدينة ، ولم يقمها بمكة ، وهذا يدل على أنه كان قد  فرضت عليه الجمعة بمكة .
وممن قال : إن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة : أبو حامد الاسفراييني من الشافعية ، والقاضي أبو يعلى في ((خلافه الكبير )) من أصحابنا ، وابن عقيل في ((عمد الأدلة )) ، وكذلك ذكره طائفة من المالكية ، منهم : السهيلي وغيره .
وأما كونه لم يفعله بمكة ، فيحمل أنه إنما امر بها أن يقيمها في دار الهجرة ، لا في دار الحرب ، وكانت مكة إذ ذاك دار حرب ، ولم يكن المسلمون يتمكنون فيها من إظهار دينهم ، وكانوا خائفين على أنفسهم ، ولذلك هاجروا منها إلى المدينة ، والجمعة تسقط بأعذار كثيرة منها الخوف على النفس والمال .
ثم أضاف ابن رجب :وقد روي عن ابن سيرين ، أن تجميع الأنصار بالمدينة إنما كان عن رأيهم ، من غير أمر النبي - r- بالكلية ، وأن ذلك كان قبل فرض الجمعة .
قال عبد الله ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) : ثنا أبي : ثنا اسماعيل -هو : ابن عليه - : ثنا ايوب ، عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت أن الانصار قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم المدينة قالوا : لو نظرنا يوما فاجتمعنا فيه ، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله علينا
به ، فقالوا : يوم السبت ، ثم قالوا : لا نجامع اليهود في يومهم ، قالوا : يوم الأحد ، قالوا : لا نجامع النصارى في يومهم .
قالوا : فيوم العروبة : قال : وكانوا يسمون يوم الجمعة : يوم العروبة ، فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد بن زرارة ، فذبحت لهم شاة ، فكفتهم .
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عم معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله - r- ، وقبل أن تنزل الجمعة ، وهم الذين سموها الجمعة ، فقالت الأنصار : لليهود  يوم يجتمعون فيه كل ستة أيام ، وللنصارى -أيضا- مثل ذلك ، فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه ، ونذكر الله عز وجل ،ونصلي ونشكره -أو كما فقالوا - ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوا يوم
العروبة ، وكانوا يسمون يوم الجمعة : يوم العروبة ، فاجتمعوا إلى اسعد بن زرارة ، فصلى بهم وذكرهم ، فسموه : يوم الجمعة حين اجتمعوا اليه ، فذبح أسعد بن زراره لهم شاة ، فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة ليلتهم ، فأنزل الله بعد ذلك : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } [الجمعة :9] .
فوقع في كلام الإمام أحمد : أن هذه هي الجمعة التي جمعها مصعب بن عمير ، وهي التي ذكرها كعب بن مالك في حديثه ، أنهم كانوا أربعين رجلا .
وفي هذا نظر .
ويحتمل أن يكون هذا الاجتماع من الأنصار كان باجتهادهم قبل قدوم مصعب إليهم ، ثم لما قدم مصعب عليهم جمع بهم بأمر النبي - r- ، وكان الإسلام حينئذ قد ظهر وفشا ، وكان يمكن إقامة شعار الإسلام  في المدينة ، وأما اجتماع الأنصار قبل ذلك ، فكأن في بيت اسعد بن زرارة قبل ظهور الإسلام بالمدينة وفشوه ، وكان باجتهاد منهم ، لا بأمر النبي - r- . والله سبحانه وتعالى أعلم ."[11]

فرع : ضبط لفظ الجمعة وسبب تسميتها

أولا : ضبط لفظ الجمعة :
قال ابن منظور في لسان العرب في ضبط لفظ الجمعة : " خففها الأعمش وثقلها عاصم وأهل الحجاز والأصل فيها التخفيف جمعة فمن ثقل أتبع الضمة الضمة ومن خفف فعلى الأصل والقراء قرؤوها بالتثقيل ويقال يوم الجمعة لغة بني عقيل ولو قرئ بها كان صوابا قال والذين قالوا الجمعة ذهبوا بها إلى صفة اليوم أنه يجمع الناس كما يقال رجل همزة لمزة ضحكة وهو الجمعة والجمعة والجمعة وهو يوم العروبة سمي بذلك لاجتماع الناس فيه ويجمع على جمعات وجمع وقيل الجمعة على تخفيف الجمعة والجمعة لأنها تجمع الناس كثيرا كما قالوا رجل لعنة يكثر لعن الناس ورجل ضحكة يكثر الضحك وزعم ثعلب أن أول من سماه به كعب بن لؤي جد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقال له العروبة وذكر السهيلي في الروض الأنف أن كعب بن لؤي أول من جمع يوم العروبة ولم تسم العروبة الجمعة إلا مذ جاء الإسلام وهو أول من سماها الجمعة فكانت قريش تجتمع إليه في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمهم أنه من ولده ويأمرهم باتباعه صلى الله عليه وسلم والإيمان به وينشد في هذا أبياتا منها
يا ليتـني شاهـد فحـواء دعـوته      إذا قريــش تبغي الحـق خذلانـا
ثانيا : سبب تسمية اليوم بالجمعة :
واختلف في تسمية اليوم بذلك - مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية العروبة - بفتح العين المهملة وضم الراء وبالموحدة –
فقيل: سمي بذلك لأن كمال الخلائق جمع فيه، ذكره أبو حذيفة النجاري في المبتدأ عن ابن عباس وإسناده ضعيف.
وقيل: لأن خلق آدم جمع فيه ورد ذلك من حديث سلمان أخرجه أحمد وابن خزيمة وغيرهما في أثناء حديث، وله شاهد عن أبي هريرة ذكره ابن أبي حاتم موقوفا بإسناد قوي، وأحمد مرفوعا بإسناد ضعيف. وهذا أصح الأقوال. ويليه ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين بسند صحيح إليه في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة، فصلى بهم وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه، ذكره ابن أبي حاتم موقوفا.
وقيل: لأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه فيذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم بأنه سيبعث منه نبي، روى ذلك الزبير في " كتاب النسب " عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مقطوعا وبه جزم الفراء وغيره. وقيل: إن قصيا هو الذي كان يجمعهم ذكره ثعلب في أماليه. وقيل سمي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه، وبهذا جزم ابن حزم فقال: إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية وإنما كان يسمى العروبة. انتهى. وفيه نظر، فقد قال أهل اللغة: أن العروبة اسم قديم كان للجاهلية. وقالوا في الجمعة هو يوم العروبة، فالظاهر أنهم غيروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تسمى: أول، أهون، جبار، دبار، مؤنس، عروبة، شبار.
وقال الجوهري: كانت العرب تسمي يوم الاثنين أهون في أسمائهم القديمة، وهذا يشعر بأنهم أحدثوا لها أسماء، وهي هذه المتعارفة الآن كالسبت والأحد إلى آخرها.
وقيل: إن أول من سمى الجمعة العروبة كعب بن لؤي وبه جزم الفراء وغيره، فيحتاج من قال إنهم غيروها إلا الجمعة فأبقوه على تسمية العروبة إلى نقل خاص.[12]
وقيل لأن المخلوقات اجتمع خلقها وفرغ منها يوم الجمعة حكاه في المشارق وقيل لاجتماع آدم عليه السلام فيه مع حواء في الأرض .
رواه الحاكم في مستدركه من حديث سلمان الفارسي t عنه قال ( قال لي رسول الله صلى الله عليه  وسلم يا سلمان ما يوم الجمعة ؟ قلت الله ورسوله أعلم قال يا سلمان يوم الجمعة جمع فيه أبوكم وأمكم).
وقيل لأن قريشا كانت تجتمع فيه إلى قصي في دار الندوة حكاه في المحكم عن ثعلب فهذه خمسة أقوال في سبب تسميتها بذلك واختلفوا هل كان في الجاهلية اسما له أو حدثت التسمية به في الإسلام فذهب إلى الأول ثعلب وقال إن أول من سماه بذلك كعب بن لؤي وذهب غيره إلى الثاني حكى هذا الخلاف ابن سيده في المحكم والسهيلي .
ثالثا : للجمعة أسماء أخرى
واعلم أن يوم الجمعة هو الاسم الذي سماه الله تعالى به وله أسماء أخر .
( الأول ) يوم العروبة بفتح العين
المهملة وكان هو اسمه في الجاهلية قال أبو جعفر النحاس في كتابه صناعة الكتاب لا يعرفه أهل اللغة إلا بالألف واللام إلا شاذا قال ومعناه اليوم البين المعظم من أعرب إذا بين قال ولم يزل يوم الجمعة معظما عند أهل كل ملة قلت لم تعرفه الأمم المتقدمة وأول من هدي له هذه الأمة كما تقدم في الحديث الصحيح والله أعلم وقال أبو موسى المديني في ذيله على الغريبين وإلا فصح أن لا يدخلها الألف واللام قال وكأنه ليس بعربي .
( الثاني ) من أسمائه حربة حكاه أبو جعفر النحاس أي مرتفع عال كالحربة قال وقيل ومن هذا اشتق المحراب ( الثالث ) يوم المزيد .
وروى الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد ضعيف عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام أنه قال { ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد } ذكره في أثناء حديث طويل .
( الرابع ) حج المساكين سماه بعضهم بذلك قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي وكأنه أخذه من الحديث الذي رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من رواية الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس مرفوعا والحديث ضعيف وكان شعبة ينكر أن يكون الضحاك سمع من ابن عباس وقال ابن حبان لم يشافه أحدا من الصحابة زعم أنه لقي ابن عباس وقد وهم انتهى .[13]

المبحث الثاني : الحكمة من تشريعها
حكم  تشريع صلاة الجمعة كثيرة نذكر منها :
أن فيها الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولرسوله صلى الله عليه و سلم بالرسالة وتذكير العباد بأيامه وتحذيرهم من بأسه ونقمته ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنانه ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها .
أنها شرعت إظهارا لدين الله وإعلاء لكلمته ، وجعلت شعارا للمسلمين ومثالا للتآزر و التعاون ، وحثهم على روح العمل الجماعي المنظم ، وتقبل النصح من الغير ، وتدارس الأخطاء والمشاكل التي تعاني منها الأمة ، كما تحثهم على التآلف والتكامل كالجسد الواحد ، وفيها إشارة إلى وجوب لتوحيد الصف والوحدة بين المسلمين كي لا يفشلوا وتذهب ريحهم ، واكتساب روح التشاور فيما استجد واستشكل من أمور الحياة ، والتذكير بوجوب تقوى الله لأنها السبيل الأوحد لجمع شتاتهم .
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجمع شتاتنا وأن يؤلف بين قلوبنا .
المبحث الثالث: خصائصها
قد ذكر ابن القيم في فصل خاص من زاد المعاد ثلاثة وثلاثين خصوصية لصلاة الجمعة وقد أوصلها السيوطي إلى مئة ، نذكرها تلخيصا من زاد المعاد :
-        القراءة في فجره بسورتي السجدة و الإنسان
-          استحباب كثرة الصلاة على النبي r فيه وفي ليلته
-   صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام ومن أعظم مجامع المسلمين وهي أعظم من كل مجع يجمعون فيه وأفرضه سوى مجمع عرفة
-   الأمر بالاغتسال في يومها وهو أمر مؤكد جدا ووجوبه أقوى من وجوب الوتر وقراءة البسملة في الصلاة ووجوب الوضوء من مس النساء ووجوب الوضوء من مس الذكر ووجوب الوضوء من القهقهة في الصلاة ووجوب الوضوء من الرعاف والحجامة والقيء ووجوب الصلاة على النبي r في التشهد الأخير  ووجوب القراءة على المأموم
-          التطيب فيه وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع
-         السواك فيه وله مزية على السواك في غيره
-       التبكير للصلاة
-         أن يشتغل بالصلاة والذكر والقراءة حتى يخرج الإمام
-         الإنصات للخطبة إذا سمعها وجوبا في أصح القولين فإن تركه كان لاغيا ومن لغا فلا جمعة له
-         قراءة سورة الكهف في يومها
-         أنه لا يكره فعل الصلاة فيه وقت الزوال عند الشافعي رحمه الله ومن وافقه وهو اختيار شيخنا أبي العباس بن تيمية
-         قراءة ( سورة الجمعة ) و ( المنافقين ) أو ( سبح والغاشية ) في صلاة الجمعة
-         أنه يوم عيد متكرر في الأسبوع
-         أنه يستحب أن يلبس فيه أحسن الثياب التي يقدر عليها
-         أنه يستحب فيه تجمير المسجد
-         أنه لا يجوز السفر في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها
-         أن للماشي إلى الجمعة بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامه
-         أنه يوم تكفير السيئات
-         أن جهنم تسجر كل يوم إلا يوم الجمعة
-         أن فيه ساعة الإجابة وهي الساعة التي لا يسأل الله عبد مسلم فيها شيئا إلا أعطاه
-         أن فيه صلاة الجمعة التي خصت من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائص لا توجد في غيرها
-   أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولرسوله صلى الله عليه و سلم بالرسالة وتذكير العباد بأيامه وتحذيرهم من بأسه ونقمته ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنانه ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها
-   أنه اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة وله على سائر الأيام مزية بأنواع من العبادات واجبة ومستحبة فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يوما يتفرغون فيه للعبادة ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا
-         أنه لما كان في الأسبوع كالعيد في العام
-         أن للصدقة فيه مزية عليها في سائر الأيام والصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع
-         أنه يوم يتجلى الله عز و جل فيه لأوليائه المؤمنين في الجنة وزيارتهم له فيكون أقربهم منهم أقربهم من الإمام
-         أنه قد فسر الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه بيوم الجمعة
-         أنه اليوم الذي تفزع منه السماوات والأرض والجبال والبحار والخلائق كلها إلا الإنس والجن
-         أنه اليوم الذي ادخره الله لهذه الأمة وأضل عنه أهل الكتاب قبلهم
-   أنه خيرة الله من أيام الأسبوع كما أن شهر رمضان خيرته من شهور العام وليلة القدر خيرته من الليالي ومكة خيرته من الأرض ومحمد r خيرته من خلقه  
-   إن الموتى تدنو أرواحهم من قبورهم وتوافيها في يوم الجمعة فيعرفون زوارهم ومن يمر بهم ويسلم عليهم ويلقاهم في ذلك اليوم أكثر من معرفتهم بهم في غيره من الأيام فهو يوم تلتقي فيه الأحياء والأموات فإذا قامت فيه الساعة التقى الأولون والآخرون وأهل الأرض وأهل السماء والرب والعبد والعامل وعمله والمظلوم وظالمه والشمس والقمر ولم تلتقيا قبل ذلك قط وهو يوم الجمع واللقاء ولهذا يلتقي الناس فيه في الدنيا أكثر من التقائهم في غيره فهو يوم التلاق
-         أنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم
-   إنه يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدإ والمعاد وقد شرع الله سبحانه وتعالى لكل أمة في الأسبوع يوما يتفرغون فيه للعبادة ويجتمعون فيه لتذكر المبدإ والمعاد والثواب والعقاب ويتذكرون به اجتماعهم يوم الجمع الأكبر قياما بين يدي رب العالمين وكان أحق الأيام بهذا الغرض المطلوب اليوم الذي يجمع الله فيه الخلائق وذلك يوم الجمعة فادخره الله لهذه الأمة لفضلها وشرفها فشرع اجتماعهم في هذا اليوم لطاعته وقدر اجتماعهم فيه مع الأمم لنيل كرامته فهو يوم الاجتماع شرعا في الدنيا وقدرا في الآخرة وفي مقدار انتصافه وقت الخطبة والصلاة يكون أهل الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم .[14]

المبحث الرابع : أيهما أفضل يوم الجمعة أم يوم النحر ؟
اختلف العلماء في ذلك وهما وجهان لأصحاب الشافعي ، والصواب أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام وهو اختيار شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم والله أعلم .
يقول ابن تيمية :"  أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة باتفاق العلماء . وأفضل أيام العام هو يوم النحر . وقد قال بعضهم يوم عرفة والأول هو الصحيح ؛ لأن في السنن عن النبي  rأنه قال : ( أفضل الأيام  عند الله يوم النحر ثم يوم القر ) لأنه يوم الحج الأكبر في مذهب مالك والشافعي وأحمد كما ثبت في الصحيح عن النبي r أنه قال : ( يوم النحر هو يوم الحج الأكبر ) . وفيه من الأعمال ما لا يعمل في  غيره : كالوقوف بمزدلفة ورمي جمرة العقبة وحدها والنحر والحلق وطواف الإفاضة فإن فعل هذه فيه أفضل بالسنة واتفاق العلماء والله أعلم ." قال ابن القيم : وغير هذا الجواب لا يسلم صاحبه من الاعتراض الذي لا حيلة له في دفعه[15].
المبحث الخامس : وقت صلاة الجمعة
اختلف العلماء في وقت صلاة الجمعة على قولان :
فقيل : أن وقت وجوبها هو وقت الزوال وهو وقت الظهر، ولا تصح قبله وهو قول الجمهور من الأحناف([16]) والمالكية([17]) والشافعية([18]) والظاهرية([19]).
وقيل : أن وقت وجوبها هو وقت الزوال، ويجوز أن تصلى قبل الزوال، وأول وقتها هو أول وقت صلاة العيد،و هو مذهب الحنابلة([20]).وهو الراجح .
أما آخر وقتها فهو آخر وقت الظهر عند الجمهور وهو الراجح، والأفضل أداؤها وقت الزوال خروجا من الخلاف .
أدلة القائلين : أن وقتها وقت الزوال وهو وقت الظهر، ولا تصح قبله
-           عن أنس بن مالك رضي الله عنه " أن النبي e كان يصلي الجمعة حين تميل  الشمس".([21])
-    عن سلمة بن الأكوع ، قال : " كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا زالت الشمس ، ثم نرجع نتتبع الفيء "([22])
-           عن أنس بن مالك قال:" كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعد الجمعة"([23]).
-    فظاهره أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار، لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، وقد تقرر فيما تقدم أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره وهو المراد هنا، والمعنى أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد، ولهذه النكتة أورد البخاري طريق حميد عن أنس عقب طريق عثمان بن عبد الرحمن عنه، وسيأتي في الترجمة التي بعد هذه التعبير بالتبكير والمراد به الصلاة في أول الوقت وهو يؤيد ما قلناه. قال الزين بن المنير في الحاشية: فسر البخاري حديث أنس الثاني بحديث أنس الأول إشارة منه إلى أنه لا تعارض بينهما([24]).
-    عن يحيى بن سعيد أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة فقالت قالت عائشة رضي الله عنها كان الناس مهنة أنفسهم وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم فقيل لهم لو اغتسلتم "([25])
-     استدل البخاري بقوله: "راحوا " على أن ذلك كان بعد الزوال لأنه حقيقة الرواح كما تقدم عن أكثر أهل اللغة، ولا يعارض هذا ما تقدم عن الأزهري أن المراد بالرواح في قوله: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح " الذهاب مطلقا لأنه إما أن يكون مجازا أو مشتركا، وعلى كل من التقديرين فالقرينة مخصصه وهي في قوله: "من راح في الساعة الأولى " قائمة في إرادة مطلق الذهاب، وفي هذا قائمة في الذهاب بعد الزوال لما جاء في حديث عائشة المذكور في الطريق التي في آخر الباب الذي قبل هذا حيث قالت: "يصيبهم الغبار والعرق " لأن ذلك غالبا إنما يكون بعد ما يشتد الحر، وهذا في حال مجيئهم من العوالي، فالظاهر أنهم لا يصلون إلى المسجد إلا حين الزوال أو قريبا من ذلك، وعرف بهذا توجيه إيراد حديث عائشة في هذا الباب.([26])
-    عن أبي سهيل، عن أبيه، قال :" كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي ، فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب فصلى الجمعة .قال : ثم نرجع بعد الجمعة فنقيل قائلة الضحاء"([27]).
-           قال ابن عبد البر:"ولهذا ومثله أدخل مالك حديث طنفسة عقيل ليوضح أن وقت الجمعة وقت الظهر لأنها مع قصر حيطانهم وعرض الطنفسة لا يغشاها الظل إلا وقد فاء الفيء وتمكن الوقت وبان في الأرض دلوك الشمس وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الذين تدور الفتوى عليهم"([28]).
-           عن ابن عباس قال : " هجرت يوم الجمعة ، فلما زالت الشمس خرج عمر فصعد المنبر وأخذ المؤذن في أذانه "([29])
-    وأما المروي عن علي : فمن طريق إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين ، قال : " كنا نصلي مع علي الجمعة ، فأحيانا نجد فيئا ، وأحيانا لا نجده "([30]) .
-    وأما المروي عن النعمان بن بشير وعمرو بن حريث : فخرجه ابن أبي شيبة من طريق سماك ، قال : "كان النعمان بن بشير يصلي بنا الجمعة بعدما تزول الشمس"([31]) .
-    ومن طريق الوليد بن العيزار ، قال : "ما رأيت إماما كان أحسن صلاة للجمعة من عمرو بن حريث، وكان يصليها إذا زالت الشمس" ([32]).وقد روي هذا -أيضا- عن معاذ بن جبل ، لكن من وجه منقطع.
-    ومن جهة أخرى فالجمعة بدل عن الظهر، فوجب أن يكون وقتها وقت الظهر، وافترقت مع صلاة العيد في كون صلاة العيد لا تصلى بعد الزوال،فوجب إلحاقها بالزوال لأنه أنسب.
أدلة القائلين : يجوز أن تصلى الجمعة قبل الزوال، وأول وقتها هو أول وقت صلاة العيد
-    عن سهل بن سعد أنه قال :"ما كنا نقيل ولا نتغذى إلا بعد الجمعة" ولا يسمى غذاء ولا قائلة إلا ما كان قبل الزوال .
-    عن سلمة بن الأكوع أنه قال :" كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به "
-           قال أبو سهيل :"إنا كنا نرجع من الجمعة فنقيل قائلة الضحى "
-    وأجيب بأن الجمهور حمل هذه الأحاديث على المبالغة في تعجيلها، وأنهم كانوا يؤخرون الغداء والقيلولة في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة ، لأنهم ندبوا إلى التبكير إليها . فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها خافوا فوتها أو فوت التبكير إليها. أما حديث سلمة معناه ليس للحيطان ظل طويل بحيث يستظل به المار ؛ لأن حيطان المدينة كانت قصيرة فلا يظهر الظل الذي يستظل به المار إلا بعد زمان طويل.
-            ولأنها عيد لقوله عليه الصلاة والسلام " قد اجتمع لكم في هذا اليوم عيدان " فتجوز قبل الزوال كصلاة العيد
-    وأجيب بأن الجمعة بدل عن الظهر، فوجب أن يكون وقتها وقت الظهر، وافترقت مع صلاة العيد في كون صلاة العيد لا تصلى بعد الزوال، فوجب إلحاقها بالزوال لأنه أنسب، و لا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيدا أن يشتمل على جميع أحكام العيد، بدليل أن يوم العيد يحرم صومه مطلقا سواء صام قبله أو بعده بخلاف يوم الجمعة باتفاقهم .
-    وصح عن عثمان أنه صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بملل([33]) . وبين المدينة وملل اثنان وعشرون ميلا، وقيل : ثمانية عشر ميلا، ويبعد أن يلحق هذا السائر بعد زوال الشمس.
-    وأجيب بأن هذا كما قاله مالك أنه هجر بالجمعة فصلاها في أول الزوال ثم أسرع السير فصلى العصر ( ( بملل ) ) ليس في أول وقتها - والله أعلم - ولكنه صلاها والشمس لم تغرب ولعله صلاها ذلك اليوم لسرعة السير والشمس بيضاء نقية وليس في هذا ما يدل على أن عثمان صلى الجمعة قبل الزوال كما زعم من ظن ذلك واحتج بحديث مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن بن أبي سليط قال ( كنا نصلي مع عثمان بن عفان الجمعة فننصرف وما للجدر ظل )  وهذا الخبر الثاني عن عثمان ليس عند القعنبي ولا عند يحيى بن يحيى صاحبنا وهما من آخر من عرض على مالك(الموطأ) وهذا وإن احتمل ما قال فيحتمل أن يكون عثمان صلى الجمعة في أول الزوال ومعلوم أن الحجاز ليس للقائم فيها كبير ظل عند الزوال وقد ذكر أهل العلم بالتعديل أن الشمس بمكة تزول في حزيران على دون عشر أقدام وهذا أقل ما تزول الشمس عليه في سائر السنة بمكة والمدينة فإذا كان هذا أو فوقه قليلا فأي ظل يكون للجدر حينئذ بالمدينة أو مكة فإذا احتمل الوجهين لم يجز أن يضاف إلى عثمان أنه صلى الجمعة قبل الزوال إلا بيقين ولا يقين مع احتمال التأويل والمعروف عن عثمان في مثل هذا أنه كان متبعا لعمر لا يخالفه وقد ذكرنا عن علي أنه كان يصليها بعد الزوال وهو الذي يصح عن سائر الخلفاء وعليه جماعة العلماء والحمد لله([34])
-    عن جابر بن عبد الله قال :"كنا نصلى مع رسول الله  eثم نرجع فنريح نواضحنا". قال حسن فقلت  لجعفر في أي ساعة؟ تلك قال: زوال الشمس"([35]).و إذا كان رجوعهم زوال الشمس دل على أنه كان يفعلها قبل الزوال يقينا.
-           وأجيب بأن حديث جابر فيه إخبار بأن الصلاة والرواح كانا حين الزوال لا أن الصلاة كانت قبله.
-    عن عبد الله بن سيدان، قال :" شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول : انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول : مال النهار، فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره."([36])
-    وأجيب بأن رجاله ثقات إلا عبد الله بن سيدان وهو بكسر المهملة بعدها تحتانية ساكنة فإنه تابعي كبير إلا أنه غير معروف العدالة، قال ابن عدي شبه المجهول. وقال البخاري لا يتابع على حديثه، بل عارضه ما هو أقوى منه فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس إسناده قوي، وفي الموطأ عن مالك بن أبي عامر قال: "كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب تطرح يوم الجمعة إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غشيها ظل الجدار خرج عمر " إسناده صحيح، وهو ظاهر في أن عمر كان يخرج بعد زوال الشمس، وفهم منه بعضهم عكس ذلك، ولا يتجه إلا إن حمل على أن الطنفسة كانت تفرش خارج المسجد وهو بعيد، والذي يظهر أنها كانت تفرش له داخل المسجد، وعلى هذا فكان عمر يتأخر بعد الزوال قليلا، وفي حديث السقيفة عن ابن عباس قال: "فلما كان يوم الجمعة وزالت الشمس خرج عمر فجلس على المنبر"([37])
-           عن عبد الله بن سلمة، قال : صلى بنا عبد الله بن مسعود الجمعة ضحى : وقال : خشيت عليكم الحر .
-           عن سعيد بن سويد ، قال صلى بنا معاوية الجمعة ضحى ([38]).
-           عن بلال العبسي، أن عمارا صلى للناس الجمعة، والناس فريقان، بعضهم يقول : زالت الشمس، وبعضهم يقول : لم تزل ([39]).
-           عن مجاهد ، قال : ما كان للناس عيد إلا أول النهار ([40]).
-           عن عطاء ، قال : كان من كان قبلكم يصلون الجمعة وإن ظل الكعبة كما هو ([41]).
-           عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : كل عيد حين يمتد الضحى : الجمعة ، والأضحى ، والفطر ، كذلك بلغنا ([42]).
الباب الثاني : الأعـذار المسقـطة لوجوبـها، وصـلاة الظهـر بعدهـا
الفصل الأول : الأعـذار المسقطـة لوجـوبها([43])

المرض والتمريض :
وهو المرض الذي يشق معه الإتيان إلى المسجد لصلاة الجماعة، وإن لم يبلغ حدا يسقط القيام في الفرض، بخلاف المرض الخفيف كصداع يسير وحمى خفيفة فليس بعذر،قال ابن المنذر : لا أعلم خلافا بين أهل العلم : أن للمريض أن يتخلف عن الجماعات من أجل المرض ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض تخلف عن المسجد وقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، ومن ذلك كبر السن الذي يشق معه الإتيان إلى المسجد.
 ومثله تمريض مريض سواء كان قريبا كالزوجة أو أحد الأبوين، أو الولد ولو كان هناك من يعوله من الناس، أحد الأقارب لهول وقع المصيبة عليه، كما يجوز التخلف عنها لتمريض غير القريب، إن لم يكن عنده من يعوله، ويخشى عليه الهلاك ، ومثله أيضا الإشتغال بتجهيز ميت يخشى عليه التغير.
  كما لا تجب الجماعة على مقعد وزمن ومقطوع يد ورجل من خلاف أو رجل فقط، ومفلوج.
 وكذلك الأعمى الذي لم يجد من يقوده،أما إن وجد من يقوده فالراجح هو قول الجمهور الذين قالوا أنه لا يباح له التخلف عنها خلافا للأحناف.



المطر
المطر، والوحل (الطين) والبرد الشديد، والحر ظهرا، والريح الشديدة في الليل لا في النهار، والظلمة الشديدة، بدليل ما روى ابن عمر رضي الله عنه، قال: «كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكانت ليلة مظلمة أو مطيرة، نادى مناديه: أن صلوا في رحالكم» متفق عليه، والثلج والجليد كالمطر.

الخوف
و أما الخوف، فيتنوع ثلاثة أنواع أحدها الخوف على نفسه، مثل أن يخاف سلطانا، أو عدوا ، أو لصا، أو سبعا، أو دابة، أو سيلا، ونحو ذلك، مما يؤذيه في نفسه، أو يخاف غريما له يلازمه ولا شيء معه يعطيه، فإن حبسه بالدين الذي هو معسر به ظلم، فإن كان قادرا على أدائه فلا عذر له في التخلف، لأن مطل الغني ظلم وفيه مضرة .وإن كان عليه دين مؤجل، وخاف أن يطلب به في الحال فهو عذر، أو أن يوجد عليه حد لله تعالى أو حد قذف، فخاف أن يؤخذ به، لم يكن ذلك عذرا، لأنه يجب وفاؤه وكذلك أن يوجد عليه قصاص، لم يكن له عذر في التخلف من أجله .وقال القاضي : إن كان يرجو الصلح عليه بمال فهو عذر، حتى يصالح، بخلاف الحدود، فإنها لا تدخلها المصالحة ولا العفو. وحد العفو إن رجا العفو عنه، فليس يعذر في التخلف؛ لأنه يرجو إسقاطه بغير بدل . ومن ذلك المطر الذي يبل الثياب، والوحل الذي يتأذى به في بدنه وثيابه؛ لما روى عبد الله بن الحارث قال : قال : عبد الله بن عباس لمؤذنه في يوم مطير : إذا قلت : أشهد أن محمدا رسول الله .فلا تقل : حي على الصلاة، وقل : صلوا في بيوتكم،قال : فكأن الناس استنكروا ذلك، فقال ابن عباس : أتعجبون من ذلك، لقد فعل ذلك من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض.متفق عليه وروى أبو المليح أنه شهد مع النبي e زمن الحديبية يوم الجمعة، وأصابهم مطر لم يبتل أسفل نعالهم، فأمرهم أن يصلوا في رحالهم. رواه أبو داود . ويعذر في ترك الجماعة بالريح الشديدة في الليلة  المظلمة الباردة لما روي عن ابن عمر، قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي في الليلة الليلة الباردة أو المطيرة في السفر: صلوا في رحالكم)متفق عليه.
ورواه ابن ماجه ولم يقل "في السفر" بإسناده صحيح فيهما جميعا،ويعذر من يريد سفرا ، ويخاف فوات رفقته، لأن عليه ضررا .
ويعذر فيهما أيضا من يخاف غلبة النعاس حتى يفوتاه فيصلي وحده وينصرف لأن الرجل الذي صلى مع معاذ انفرد عنه، وفارق الجماعة وصلى وحده عند تطويل معاذ، وخوف النعاس و المشقة ، فلم ينكر عليه النبي e حين أخبره بذلك .
ويعذر في ترك الجماعة من يخاف تطويل الإمام كثيرا ، لهذا الخبر ، فإنه إذا جاز ترك الجماعة بعد دخوله فيها، فترك الخروج إليها أولى .
النوع الثاني : الخوف على ماله ؛ لما ذكرناه من السلطان واللصوص وأشباههما ، أو يخاف أن يسرق منزله أو متاعه أو يخاف على بهيمته من لص أو سبع أو شرود إن تركها وذهب، أو أن يخاف من حريق على منزله أومتاعه أو زرعه باشتغاله عنه، أو يخاف إباق عبده، أو ضياع شيء من ماله،أو يكون له خبز في التنور ، أو طبيخ على النار يخاف تلفها بذهابه، أو يكون له مال ضائع، أو عبد آبق يرجو وجدانه في تلك الحال، ويخاف ضياعه باشتغاله عنه، أو يكون له غريم إن ترك ملازمته ذهب بماله ، أو يكون له بضاعة أو وديعة عند رجل إن لم يدركه ذهب، أو يكون ناطور بستان أو نحوه، يخاف إن ذهب سرق، أو مستأجرا لا يمكنه ترك ما استؤجر على حفظه، فهذا وأشباهه عذر في التخلف عن الجمعة والجماعات ؛ لأن في أمر النبي e بالصلاة في الرحال، دفعا لمشقة الطين والمطر، فله ضررهما بينها على جواز ذلك لما هو أكثر ضررا منهما.
النوع الثالث : الخوف على ولده وأهله أن يضيعوا ، أو يكون ولده ضائعا فيرجو وجوده في تلك الحال أو يخاف موت قريبه ولا يشهده. فهذا كله عذر في ترك الجمعة والجماعات؛
وبهذا قال عطاء ، والحسن ، والأوزاعي ، والشافعي، ولا نعلم فيه مخالفا.قال ابن المنذر ثبت أن ابن عمر استصرخ على سعيد بن زيد بعد ارتفاع الضحى، وهو يتجهز للجمعة، فأتاه وترك الجمعة، ولأن النبي e  لما رخص في ترك الجماعة عند حضور العشاء و الحاجة إلى الخلاء، كان تنبيها على جواز تركها، بما ذكرناه كله، لأنه أعظم ضررا.
مدافعة الأخبثين
إذا كان حاقنا كرهت له الصلاة حتى يقضي حاجته ، سواء خاف فوات الجماعة أو لم يخف.لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا صلاة بحضرة طعام ، ولا هو يدافعه الأخبثان ، وروى ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يحل لامرئ أن ينظر في جوف بيت امرئ حتى يستأذن ، ولا يقوم إلى الصلاة وهو حاقن ) .قال الترمذي : هذا حديث حسن .
والمعنى في ذلك أن يقوم إلى الصلاة وبه ما يشغله عن خشوعها .
وحضور قلبه فيها، فإن خالف وفعل، صحت صلاته في هذه المسألة وفي التي قبلها وقال ابن أبي موسى : إن كان به من مدافعة الأخبثين ما يزعجه ويشغله عن الصلاة، أعاد، في الظاهر من قوله .لظاهر الحديثين،اللذين رويناهما، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى .
وقال ابن عبد البر في حديث ثوبان : لا يقوم به حجة عند أهل العلم بالحديث ، فهذان من الأعذار التي يعذر بها في ترك الجماعة والجمعة، لعموم اللفظ؛ فإن قوله :( وأقيمت الصلاة).
عام في كل صلاة ، وقوله : " لا صلاة " عام أيضا.
الرائحة الكريهة
وذلك كبصل وثوم وكراث وفجل إذا تعذر زوال رائحته، فإن ذلك عذر يبيح التخلف عن الجماعة، حتى لا يتأذى به الناس والملائكة؛ لحديث : من أكل من هذه البقلة : الثوم - وقال مرة : من أكل البصل والثوم والكراث - فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. والمراد أكل هذه الأشياء نيئة، ويدخل في ذلك من كانت حرفته لها رائحة مؤذية، كالجزار والزيات ونحو ذلك. ومثل ذلك من كان به مرض يتأذى به الناس، كجذام وبرص، ففي كل ذلك يباح التخلف عن الجماعة.
إرادة السفر :
من تأهب لسفر مباح مع رفقة ، ثم أقيمت الجماعة ، وكان يخشى إن حضر الجماعة أن تفوته القافلة ، فإنه يباح له التخلف عن الجماعة .
غلبة النعاس والنوم :
    فمن غلبه النعاس والنوم إن انتظر الجماعة صلى وحده. وكذلك لو غلبه النعاس مع الإمام؛ لأن رجلا صلى مع معاذ، ثم انفرد فصلى وحده عند تطويل معاذ، وخوف النعاس والمشقة، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبره، والأفضل الصبر والتجلد على رفع النعاس والصلاة جماعة  .
زفاف الزوجة :
فزفاف الزوجة عذر يبيح للزوج التخلف عن صلاة الجماعة ، وذلك كما يقول الشافعية والحنابلة ، لكن الشافعية قيدوه بالتخلف عن الجماعة في الصلوات الليلية فقط ، وأما المالكية فلم يعتبروا ذلك عذرا ، وخفف مالك للزوج ترك بعض الصلاة في الجماعة للاشتغال بزوجه والسعي إلى تأنيسها واستمالتها .
العري :
فمن لم يجد ما يستر ما بين السرة والركبة فإنه يباح له التخلف عن الجماعة . وهذا إذا كان من عادة أمثاله الخروج بمثل ذلك ، قال الشافعية وبعض المالكية : الأليق بالحنيفية السمحة : أنه إن وجد ما يليق بأمثاله خرج للجماعة ، وإلا فلا.
الفصل الثاني : صـلاة الظهـر بعد الجمـعـة
هذه المسألة تتفرع عن مدى شرعية تعدد الجمعة في بلد واحد، فمن حرم تعددها لغير حاجة، أبطل الجمعة الثانية، وأوجب صلاة الظهر بعدها، هذا وقد أجمع العلماء على أن البلد إذا كانت تصلى فيه جمعة واحدة، فجمعتهم صحيحة ويحرم عليهم الإتيان بظهر بعدها.كما أجازوا تعددها لحاجة، واختلفوا في إقامة الجمعة في موضعين فأكثر من البلد لغير حاجة على أقوال :
فقيل : لا يجوز إقامة الجمعة في موضعين فأكثر من البلد لغير حاجة، وإلا فجمعة المسجد العتيق الذي أديت فيه أول جمعة هي الصحيحة، وعلى المساجد الأخرى أن يعيدوها ظهرا وهو المشهور من مذهب المالكية([44]).
وقيل : لا يجوز إقامة الجمعة في موضعين فأكثر من البلد لغير حاجة، وإلا فالجمعة  السابقة هي الصحيحة والعبرة في ذلك راء تكبيرة الإحرام، وما عداهم يصلونها ظهرا وهو مذهب الشافعية([45]).
وقيل : لا يجوز إقامة الجمعة في موضعين فأكثر من البلد لغير حاجة،وإلا فجمعة الحاكم هي الصحيحة، وما عداهم يصلونها ظهرا وهو مذهب الحنابلة([46]).
وقيل : يجوز إقامة الجمعة في موضعين فأكثر من البلد لحاجة، أو لغيرها،وعليه فلا يلزمهم الإتيان بظهر بعدها، وهو مذهب الأحناف([47]) .
فتحصل إذن من الخلاف أن منع تعددها لغير حاجة هو مذهب الجمهور على خلاف بينهم في الجمعة الصحيحة، خلافا للأحناف الذين أباحوا التعدد رفعا للحرج.
مناقشة الأدلة :
أدلة الجمهور القائلين : بأنه لا يجوز إقامة الجمعة في موضعين فأكثر من البلد لغير حاجة
-   قالوا لم ينقل عن النبي e وخلفائه y أنهم جمعوا أكثر من جمعة ، إذ لم تدع الحاجة إلى  ذلك، ولا يجوز إثبات الأحكام بالتحكم بغير دليل، ولو جازت في أكثر منه لبينه قولا وفعلا.
-   قالوا ولأنها لا تخلو من أحد أمرين : إما أن يصح انعقادها في كل مسجد إلحاقا بصلاة الجماعة ، أو لا يصح انعقادها إلا في مسجد واحد اختصاصا لها بتعطيل الجماعة إذ ليس أصل ثابت ترد إليه ، فلما لم يصح انعقادها في كل مسجد ثبت أنه لا يصح انعقادها إلا في مسجد واحد . ولأنه مصر انعقدت فيه الجمعة فوجب أن لا ينعقد فيه غيرها كالجمعة الثالثة . ولأن الله تعالى أمر بالسعي عند إقامتها ، فلو جاز إقامتها في موضعين لوجب عليه السعي إليهما، إذ ليس أحدهم أولى بالسعي إليه من الآخر ، وسعيه إليهما مستحيل ، وإلى أحدهما غير جائز ، فدل على فساده.
-       وعلل المالكية اختيارهم للمسجد العتيق بأنه أول مسجد أقيمت فيه الجمعة .
-       وعلل الشافعية اشتراط السبق بتكبيرة الإحرام، لكون الجمعة تنعقد بها، وإذا انعقدت به منعت من انعقاد غيرها.
-   واستدل الحنابلة لقولهم بأنه متى صلوا جمعتين في بلد لغير حاجة وإحداهما جمعة الإمام فهي الصحيحة تقدمت أو تأخرت لأن في الحكم ببطلان جمعة الإمام افتياتا عليه وتفويتا له الجمعة ولمن يصلي معه ويفضي إلى أنه متى شاء أربعون أن يفسدوا صلاة أهل البلد أمكنهم ذلك بأن يسبقوا أهل البلد بصلاة الجمعة.
دليل الأحناف القائلين : بجواز إقامة الجمعة في موضعين فأكثر من البلد لحاجة، أو لغيرها.
-   قالوا دفعا للحرج لأن في إلزام اتحاد الموضع حرجا بينا لاستدعائه تطويل المسافة على أكثر الحاضرين، ولم يوجد دليل عدم جواز التعدد بل قضية الضرورة عدم اشتراطه، لا سيما إذا كان مصرا كبيرا.
-       كما فيه مفسدة اعتقاد الجهلة عدم فرض الجمعة أو تعدد المفروض.
الراجـح :
الذي يظهر من حاصل هذا الخلاف أن الراجح هو قول الأحناف بجواز إقامة الجمعة في موضعين فأكثر من البلد لحاجة، أو لغيرها،ويتوافق مع يسر الشريعة، وأما الشروط التي اشترطها الجمهور لا دليل عليها لا من كتاب ولا من سنة، والأصل عدمها لأن شرعية الأصل الذي هو وجوب الجمعة لا يستلزم شرعية الوصف الذي يتمثل في شروطها، ولأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد. وقد ثبت أن عليا رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضعفة الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم، وأما ترك النبي e إقامة جمعتين فلغناهم عن إحداهما ولأن  الصحابة كانوا يؤثرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم لأنه المبلغ عن الله تعالى وشارع الأحكام ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار إجماعا. وقول ابن عمر لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر معناه أنها لا تترك في المساجد الكبار وتقام في الصغار، وأما اعتبار ذلك بإقامة الحدود فلا وجه له، قال أبو داود سمعت أحمد يقول أي حد كان يقام بالمدينة قدمها مصعب بن عمير وهم يختبئون في دار فجمع بهم وهم أربعون.
وإقامة الجمعة في مواضع بحسب الحاجة الداعية إليه :إن كان البلد كبيرا يحتاج إلى جوامع أو في حال خوف الفتنة بأن يكون بين أهل البلد عداوة، أو في حال سعة البلد وتباعد أطرافه، فصلاه الجمعة في جميعها جائزة، لأنه لو لم يجز لأهل هذا المصر العظيم أن يصلوا إلا في موضع واحد لطال اتصال الصفوف، ولخرج عن حد المتعارف، وخفي عليه اتباع الإمام :لأن الإمام إن كبر على العادة لم يصل التكبير إلى آخرهم إلا بعد تكبيره لركن ثان، فيلتبس عليهم التكبير، وتختلط عليهم الصلاة، وإن كبر وانتظر بلوغ التكبير إلى آخرهم طال الزمان، وتفاحش الانتظار، فدعت الضرورة إلى إقامتها في مواضع.
وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] مسلم (854)
[2] مسلم (233)
[3] مسلم (857)
[4] صحيح ابن حبان (2771) قال شعيب الأرناؤوط : إسناده قوي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1023)
[5] صححه ابن خزيمة (1813) والألباني في صحيح الجامع (8045)
[6] رواه ابن خزيمة (1730) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (706)
[7] مسند أحمد (15587) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2279)
[8]  رواه ابن حبان (2770)قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم
[9]  رواه البخاري (935) ومسلم (852)
 [10] الدر المنثور: )8 / 151(
[11]  فتح الباري لابن رجب (62 فما بعدها )
[12] فتح الباري (2/353(
[13] طرح التثريب (5/158)
[14] زاد المعاد( 1/59 ) ملخصا.
[15] مجموع الفتاوى (25/288)
([16])بدائع الصنائع(1/270) شرح فتح القدير(2/54)مراقي الفلاح(191) الاختيار لتعليل المختار(1/82) البناية شرح الهداية (3/59)
([17])الكافي في فقه أهل المدينة(70)المنتقى(1/19) القوانين الفقهية(64) بداية المجتهد(1/365) مواهب الجليل(2/517)
([18])الأم(2/386)المجموع(4/377)مغني المحتاج(1/418)حواشي تحفة المنهاج(2/419) حاشية الشرقاوي على شرح التحرير(1/290) حاشية البيجرمي على الخطيب(2/405)
([19])المحلى(5/42)
([20])الانتصار في المسائل الكبار(2/575) المغني(3/159) كشاف القناع (1/501) الشرح الكبير مع الإنصاف(5/186) المحرر في الفقه(1/143)شرح منتهى الإرادات(2/11)
قال النووي في المجموع(4/380) :" قال العبدري قال العلماء كافة لا تجوز صلاة الجمعة قبل الزوال إلا أحمد ونقل الماوردي في الحاوي عن ابن عباس كقول أحمد ونقله ابن المنذر عن عطاء واسحق " قال وروى ذلك بإسناد لا يثبت عن أبي بكر وعمر وابن مسعود ومعاوية ".

([21]) البخاري (904)
([22]) البخاري(4168)مسلم(860)
([23]) البخاري(905)
([24])فتح الباري(2/388)
([25]) البخاري(903)
([26]) فتح الباري(2/388)
([27]) مالك في الموطأ(13)
([28]) الاستذكار(1/250)
([29]) مصنف عبد الرزاق(5223)
([30]) مصنف عبد الرزاق (5230)وابن أبي شيبة(5186)
([31]) مصنف ابن أبي شيبة(5187)
([32])مصنف ابن أبي شيبة(5188)

([33]) مالك (14)
([34]) الاستذكار(1/254)
([35]) مسلم (858)
([36]) أخرجه ابن أبي شيبة (5174)وعبد الرزاق(5224)
([37]) الفتح(387)
([38])مصنف ابن أبي شيبة(5177)
([39])مصنف ابن أبي شيبة(5182)
([40]) مصنف ابن أبي شيبة(5173)
([41]) مصنف ابن أبي شيبة(5175)
([42]) مصنف عبد الرزاق(5222)
([43]) رد المحتار(2/291)مراقي الفلاح (111) بدائع الصنائع(1/155)القوانين الفقهية(63)الخرشي على مختصر خليل(1/444)مواهب الجليل(2/555 فما بعدها)الحاوي الكبير(2/424) روضة الطالبين(1/449)المجموع(4/100) مغني المحتاج (1/358)المغني(2/376) الشرح الكبير(4/464 فما بعدها)المستوعب(1/244)كشاف القناع(1/469 فما بعدها) شرح منتهى الإرادات(1/586)معونة أولي النهى(2/404)الموسوعة الفقهية الكويتية(27/186)الفقه الإسلامي وأدلته(2/169)
([44]) المعونة(1/196)حاشية الصاوي (1/326)حاشية الدسوقي (1/374)الخرشي على مختصر خليل(1/438) التاج والإكليل(2/520)الإكليل(70)
([45]) الحاوي الكبير (2/447)المجموع(4/452)
([46]) المغني (3/212) الشرح الكبير مع الإنصاف(5/252) المحرر في الفقه(1/142)كشاف القناع(1/517)
([47]) رد المحتار(3/16)مراقي الفلاح(191)الهداية للمرغيناني (1/89)قال في البدائع(1/260):" أما إقامة الجمعة في مصر واحد في موضعين فقد ذكر الكرخي أنه لا بأس بأن يجمعوا في موضعين أو ثلاثة عند محمد هكذا ذكر وعن أبي يوسف روايتان في رواية قال: لا يجوز إلا إذا كان بين موضعي الإقامة نهر عظيم كدجلة أو نحوها فيصير بمنزلة مصرين، وقيل: إنما تجوز على قوله إذا كان لا جسر على النهر فأما إذا كان عليه جسر فلا؛ لأن له حكم مصر واحد وكان يأمر بقطع الجسر يوم الجمعة حتى ينقطع الفصل، وفي رواية قال: يجوز في موضعين إذا كان المصر عظيما ولم يجز في الثلاث وإن كان بينهما نهر صغير لا يجوز فإن أدوها في موضعين فالجمعة لمن سبق منهما وعلى الآخرين أن يعيدوا الظهر، وإن أدوها معا أو كان لا يدري كيف كان لا تجوز صلاتهم وروى محمد عن أبي حنيفة أنه يجوز الجمع في موضعين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك."اهـ

موقع بحوث شرعية

موقع بحوث شرعية

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.