جديد الموقع
recent

حكم بيع الدين


بيع الدين بالدين أقسامه وشروطه
راشد بن فهد آل حفيظ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذا بحث مختصر عن مسألة بيع الدين بالدين، جمعت فيه ما وقفت عليه من كلام بعض المحققين من أهل العلم، في هذه المسألة، مع بيان المذهب "مذهب الحنابلة" وذلك لأهميتها، وتعلقها ببعض أبواب البيوع، ولأنها مما يشكل على البعض، بل قد يخطئ فيها، وقد رتبته في مبحثين على النحو التالي:
المبحث الأول: أقسام بيع الدين بالدين، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: بيع الواجب بالواجب.
المطلب الثاني: بيع الساقط بالساقط.
المطلب الثالث: بيع الساقط بالواجب، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الدين الذي يجوز بيعه.
المسألة الثانية: بيع الدين لغير من هو عليه.
المطلب الرابع: بيع الواجب بالساقط.
المبحث الثاني: شروط جواز بيع الدين.
والله أسأل أن يجعل عملي خالصًا لوجهه، موافقًا لمرضاته، نافعًا لعباده، إنه قريب مجيب.
المبحث الأول
أقسام بيع الدين بالدين (1)
المطلب الأول
بيع الواجب بالواجب
القسم الأول: بيع الواجب بالواجب:
وهو بيع دين مؤجل لم يقبض بدين مؤجل آخر لم يقبض، أو بيع الدين المؤخر الذي لم يقبض بالدين المؤخر الذي لم يقبض.
فكلاهما مؤخر مؤجل، لم يقبض أحدهما، أو يسقط(2).
"مثل أن يسلم شيئًا مؤخرًا في الذمة في شيء في الذمة"(3) وهو محرم بالإجماع(4) وهو بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه(5)، بحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الكالئ بالكالئ"(6).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وهذا مثل أن يسلف إليه شيئًا مؤجلاً في شيء مؤجل، فهذا الذي لا يجوز بالإجماع، .. والإجماع إنما هو في الدين الواجب بالدين الواجب، كالسلف المؤجل من الطرفين"(7).
وقال رحمه الله: "لا يجوز باتفاقهم، لأنه كلاً منهما شغل ذمته بما للآخر من غير منفعة حصلت لأحدهما، والمقصود بالبيع النفع،فهذا يكون أحدهما قد أكل مال الآخر بالباطل إذا قال أسلمت إليك مائة درهم إلى سنة في وسق حنطة، ولم يعطه شيئًا، فإن هذه المعاملة ليس فيها منفعة، بل مضرة، هذا يطلب هذا بالدراهم، ولم ينتفع واحد منهما، بل أكل مال الآخر بالباطل من غير نفع نفعه به(8).
وقال رحمه الله: "والمقصود من العقود: القبض، فهذا عقد لم يحصل به مقصود أصلاً، بل هو التزام بلا فائدة"(9).
وقال رحمه الله: "إنه عقد وإيجاب على النفوس بلا حصول مقصود لأحد الطرفين، ولا لهما"(10).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "إنه اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة، فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله، وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بلا فائدة"(11). وقال -رحمه الله-:"وفيه ذريعة إلى تضاعف الدين في ذمة كل واحد منهما في مقابلة تأجيله، وهذه مفسدة ربا النساء بعينها"(12).
المطلب الثاني
بيع الساقط بالساقط
القسم الثاني: بيع الساقط بالساقط:
وهو: بيع دين ثابت في الذمة يسقط إذا بيع بدين ثابت في الذمة يسقط" (13) مثل أن يكون لأحدهما عند الآخر، وللآخر عند الأول دراهم، فيبيع هذا بهذا"(14).
وهو ما يعرف بمسألة المقاصة(15).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وهذا بيع دين ساقط بدين ساقط، ومذهب أبي حنيفة(16)، ومالك(17)، جوازه"(18).
وقال رحمه الله: "والأظهر جواز هذا، لأنه برئت ذمة كل منهما، فهو خلاف ما يشغل ذمة كل منهما.." (19).
وقال رحمه الله: "إن هذا يقتضي تفريغ كل واحدة من الذمتين، ولهذا كان هذا جائزًا في أظهر قولي العلماء كمذهب مالك، وأبي حنيفة"(20).
وقال رحمه الله: "إن براءة ذمة كل منهما منفعة له"(21) . وقال ابن القيم -رحمه الله- معللاً للجواز:
"لأن ذمتهما تبرأ من أسرها، وبراءة الذمة مطلوب لهما وللشارع"(22).
واختار الجواز -كذلك- العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي(23)، وتلميذه العلامة الشيخ محمد بن عثيمين(24)، رحمهما الله.
أما المذهب: فلا يجوز ذلك، لأنه بيع دين بدين(25).
ويجاب عن ذلك بأن بيع الدين بالدين المنهي عنه هو بيع الواجب بالواجب، لاشتغال الذمتين فيه بغير منفعة -كما تقدم- "بخلاف بيع الساقط بالساقط، فإن براءة ذمة كل منهما منفعة له"(26).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "لفظ النهي عن بيع الدين بالدين لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف..، قال أحمد: لم يصح فيه حديث، ولكن هو إجماع، وهذا مثل أن يسلف إليه شيئًا مؤجلاً في شيء مؤجل، فهذا الذي لا يجوز بالإجماع، وإذا كان العمدة في هذا هو الإجماع، والإجماع إنما هو في الدين الواجب بالدين الواجب، كالسلف المؤجل من الطرفين، فهذه الصورة -وهي بيع ما هو ثابت في الذمة ليسقط بما هو في الذمة- ليس في تحريمه نص ولا إجماع ولا قياس، فإن كلاً منهما اشترى ما في ذمته، وهو مقبوض له بما في ذمة الآخر، فهو كما لو كان لكل منها عند الآخر وديعة، فاشتراها بوديعته عند الآخر، وهنا حصلت بالبيع براءة كل منهما، وهي ضد ما يحصل ببيع الدين الواجب بالدين الواجب"(27).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "اشتهر أنه نهي عن بيع الدين بالدين، لكن هذا اللفظ لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الدين المطلق هو المؤخر، فيكون هو بيع الكالئ بالكالئ"(28).
وقال -رحمه الله-: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن بيع الدين بالدين، ولكن روي "إنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ" مع ضعف الحديث، لكن بيع المؤخر بالمؤخر لا يجوز باتفاقهم"(29).
وقال -رحمه الله-: "وكونه يشمله لفظ بيع دين، ولو كان هذا لفظ صاحب الشرع لم يتناول هذا، فإنه إنما يراد بذلك إذا جعل على هذا دين بدين يجعل على هذا، وهذا لم يبق على هذا دين ولا على هذا دين فأي محذور في هذا؟ بل هذا خير من أن يؤمر كل واحد منهما بإعطاء ما عليه، ثم استيفاء ما له على الآخر، فإن في هذا ضررًا على هذا وعلى هذا، وتضييع ما لهما لو كان معهما ما يوفيان، فكيف إذا لم يكن معهما ذلك؟ ينزه الشرع عن تحريمه فإن الشارع حكيم لا يحرم ما ينفع ولا يضر"(30).
المطلب الثالث
بيع الساقط بالواجب
القسم الثالث: بيع الساقط بالواجب:
هو بيع دين ثابت يسقط ويجب ثمنه(31).
كمن باع مائة صاع من البر ثابتة له في ذمة شخص بمائتي ريال(32).
وهذا جائز على الصحيح، سواء كان الدين المبيع دين سلم، أو رأس مال السلم -بعد فسخ العقد- أو غيرهما، وسواء باعه على من هو عليه، أو غيره، لكن بشروط -كما سيأتي- لأنه لا دليل على المنع، والأصل حل البيع، ولأن ما في الذمة مقبوض للمدين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ويجوز بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره، ولا فرق بين دين السلم وغيره، وهو رواية عن أحمد(33)، وقال ابن عباس، ولكن بقدر القيمة فقط، لئلا يربح فيما لم يضمن"(34).
ومن المناسب هنا الكلام عن هاتين المسألتين:
المسألة الأولى: الدين الذي يجوز بيعه.
يجوز بيع كل دين مستقر -من ثمن مبيع، وأجرة استوفي نفعها، أو فرغت مدتها، وقرض، ومهر بعد الدخول، وجعل بعد عمل، وديةٍ، وأرش، وقيمة متلف، -إلا دين السلم "المسلم فيه" على المذهب(35).
وقد نص الإمام أحمد في رواية: على جواز بيعه كذلك.
واختار شيخ الإسلام(36) وتلميذه العلامة ابن القيم(37)، والعلامة ابن سعدي(38)، وتلميذه ابن عثيمين(39)، لكن بقدر القيمة فقط لئلا يربح فيما لم يضمن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وهذه الرواية أكثر في نصوص أحمد، وهي أشبه بأصوله"(40).
وقال -رحمه الله-: "وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد، وذلك لأن دين السلم مبيع"(41).
وقال رحمه الله: "وهو مذهب مالك، وقد نص أحمد، على هذا في غير موضع، وجعل دين السلم كغيره من المبيعات"(42).
وقال رحمه الله: "وهو قول ابن عباس، ولا يعرف له في الصحابة مخالف، وذلك لأن دين السلم دين ثابت، فجاز الاعتياض عنه كبدل القرض، وكالثمن في المبيع، ولأنه أحد العوضين في البيع فجاز الاعتياض عنه، كالعوض الآخر"(43).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الشافعي، وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة، فجازت المعاوضة عليه، كسائر الديون، من القرض وغيره"(44).
فإن قيل: ما الجواب عن حديث: "من أسلف في شيء، فلا يصرفه إلى غيره"(45).
فالجواب عنه من وجهين:
الأول: أن الحديث ضعيف(46).
الثاني: أن المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى مسلم فيه آخر، لأنه بهذا سوف يتضمن الربح فيما لم يضمن(47).
فإن لم يتضمن الربح فجائز، على الصحيح(48) كما سيأتي في القسم الرابع.
فإن قيل: إن بيع دين السلم "المسلم فيه" بيع لما لم يقبض، والبيع قبل القبض منهي عنه(49). فالجواب عن ذلك من وجهين:
الأول: أن النهي إنما كان في الأعيان لا في الديون"(50).
بدليل ما ثبت عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء"(51).
"فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه، فما الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السلم بغيره"(52).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
"إن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه هو في الطعام المعين، وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملكٍ له، فلا يقاس هذا بهذا، فإن البيع المعروف هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهنا لم يملك شيئًا، بل سقط الدين من ذمته وهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم معينة، فإنه بيع"(53).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
"وأما نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الطعام قبل قبضه فهذا إنما هو في المعين، أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن، فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملكٍ له فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة، فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عرضًا أو غيره أسقط ما في ذمته، فكان كالمستوفي في دينه لأن بدله يقوم مقامه، ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال، والبيع المعروف هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهذا لم يملكه شيئًا، بل سقط الدين من ذمته، ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم يسمى بيعًا، وفي الدين إذا وفاها بجنسها لم يكن بيعًا فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعًا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة"(54).
الثاني: أن النهي عن بيع المبيع قبل قبضه مختص بما إذا باعه على غير بائعه، أما إذا باعه على بائعه فجائز(55).
فإن قيل: ما الجواب عن قول الموفق ابن قدامة -رحمه الله-: "وأما بيع المسلم فيه قبل قبضه فما نعلم في تحريمه خلافًا.." (56).
فالجواب: "أنه قال بحسب ما علمه، وإلا فمذهب مالك أنه يجوز من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه، وهذا أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد، نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته، وإن كان ذلك ليس في كتب كثير من متأخري أصحابه، وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد، وذلك لأن دين السلم مبيع"(57).
ومثله -على الصحيح- رأس مال السلم- أي بعد فسخ عقد السلم -يصح بيعه(58)، وهو أحد الوجهين في المذهب(59)، والوجه الثاني: لا يصح، وهو المذهب(60).
المسألة الثانية: بيع الدين لغير من هو عليه:
المذهب: لا يجوز بيعه لغير من هو عليه(61) لأنه غير قادر على تسليمه، أشبه بيع الآبق(62).
وقد نص الإمام أحمد في رواية على جواز بيعه لغير من هو عليه(63)، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية(64).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-:
"مذهب مالك يجوز بيعه من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه، وهذا أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد، نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته، وإن كان ذلك ليس في كتب كثير من متأخري أصحابه"(65).
وقال رحمه الله: "بيع الدين ممن هو عليه جائز...، وعند مالك يجوز بيعه ممن ليس هو عليه، وهو رواية عن أحمد"(66) .
وقال رحمه الله: "تنازع العلماء في بيع الدين على الغير، وفيه عن أحمد روايتان، وإن كان المشهور عند أصحابه منعه"(67).
وقال رحمه الله:
"وهذا -يعني عدم التمكن من التسليم- حجة من منع بيع الدين ممن ليس عليه، قال: لأنه غرر ليس بمقبوض، ومن جوّزه قال: بيعه كالحوالة عليه، وكبيع المودع، والمعار، فإنه مقبوض حكمًا، ولهذا جوّزنا بيع الثمار"(68).(69)
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "نص أحمد على جواز بيع الدين لمن هو في ذمته ولغيره، وإن كان أكثر أصحابنا لا يحكمون عنه جوازه لغير من هو في ذمته، فقد نص عليه في مواضع، حكاه شيخنا أبو العباس بن تيمية -رحمه الله-(70).
وقد رجَّح محمد -رحمه الله-: "وعن أحمد رواية ثانية بجواز بيعه لغير من هو عليه، لكن بشروط:
قال الشيخ محمد -رحمه الله-: "وعن أحمد رواية ثانية بجواز بيعه لغير من هو عليه(71) اختارها الشيخ تقي الدين(72)، قلت: وهو الصواب بشرط أن يكون من عليه الدين غنيًا باذلاً، وأن لا يبيعه بما لا يباع به نسيئة"(73).
وقال رحمه الله: "ولا يجوز لغير من هو عليه، وعنه: بلى، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، وهو الصواب، لكن بقدر القيمة، كما تقدم لئلا يربح فيما لم يضمن، هكذا اشترط(74)، وهو صحيح، وينبغي أن يزاد شرط آخر، وهو القدرة على أخذه من الغريم، وإلا لم يصح، لأن من الشروط القدرة على تسليم المبيع.." (75). وقال - رحمه الله-: (إذا باع ديناً في ذمة مقرٍ(76) على شخص قادر على استخراجه، فالصواب أنه جائز؛ لأنه لا دليل على منعه، والأصل حل البيع) (77).
لأنه إذا باع ديناً بهذه الصفة، فلن يكون ثمة غرر ولا مخاطرة -حينئذ- كبيع المغصوب على قادر على أخذه(78) وبيع الآبق على قادر على رده(79).
فإن قيل: ما الحكم إذا تعذر أخذ الدين في المدين؟
فالجواب: أن للمشتري الفسخ- حينئذ- قياساً على بيع المغصوب على قادر على أخذه(80) فإنه إذا تعذر أخذه فللمشتري الفسخ، على المذهب(81).
فإن قيل: فهل يجوز بيع دين مؤجل على الغير بدين مؤجل آخر؟(82).
فالجواب: لا، لا يجوز ذلك بالاتفاق(83)، سواء باعه على من هو عليه، أو على الغير(84)، لاشتغال الذمتين فيه بغير فائدة - كما تقدم في المطلب الأول-.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (لا يجوز باتفاقهم - يعني بيع الواجب بالواجب- لأن كلاً منهما شغل ذمته بما للآخر من غير منفعة وصلت لأحدهما، والمقصود بالبيع النفع) (85).
وقال -رحمه الله-: (المقصود من العقود القبض، فهو - يعني بيع الواجب بالواجب- عقد لم يصل به مقصود أصلاً، بل هو التزام بلا فائدة) (86).
وقال -رحمه الله-: (ففيه - يعني بيع الواجب بالواجب- شغل ذمة كل واحد منهما بالعقود التي هي وسائل إلى القبض، وهو المقصود بالعقد) (87).
المطلب الرابع
القسم الرابع: بيع الواجب بالساقط
وهو: إسقاط دين ثابت في ذمة شخص، وجعله ثمناً (رأس مال سلم) لموصوف في الذمة (مسلم فيه) مؤجلٍ معلومٍ(88)(89).
قال ابن القيم -رحمه الله-: (كما لو أسلم إليه في كُرِّ - مكيال لأهل العراق- حنطة بعشرة دراهم في ذمته، فقد وجب له عليه دين وسقط عنه دين غيره) (90).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم -رحمه الله-: (بأن يكون لزيد على عمرو دراهم مثلاً فيجعلها رأس مال سلم في طعام ونحوه) (91).
وهذا جائز -أيضاً- على الصحيح، لكن بشروط - كما سيأتي - لأنه لا دليل على المنع، والأصل حل البيع، ولأن ما في الذمة مقبوض للمدين.
قال ابن القيم -رحمه الله-: (وقد حكي الإجماع(92) على امتناع هذا، ولا إجماع فيه، قاله شيخنا(93)، شيخ الإسلام ابن تيمية واختار جوازه(94)، وهو الصواب، إذ لا محذور فيه، وليس بيع كالئ بكالئ- بيع الواجب بالواجب- فيتناوله النهي بلفظه، ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى، فإن المنهي عنه اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة) (95).
ثم قال رحمه الله: (وإذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته، والآخر يحصل على الربح- وذلك في بيع العين بالدين- جاز أن يفرغها من دين ويشغلها بغيره، وكأنه شغلها بها ابتداء إما بقرض أو بمعاوضة فكانت ذمته مشغولة بشيء، فانتقلت من شاغل إلى شاغل، وليس هناك بيع كالئ بكالئ، وإن كان بيع دين بدين فلم ينهه الشارع عن ذلك لا بلفظه ولا بمعنى لفظه، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه، فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فقد عاوض المحيل المحتال من دينه بدين آخر في ذمة ثالث، فإذا عاوضه من دينه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز(96).
وقال رحمه الله: (لا إجماع معلوم في المسألة، وإن كان قد حكي، فإن المانع من جوازها رأى أنها من باب بيع الدين بالدين، والمجوز له يقول: ليس عن الشرع نص عام في المنع من بيع الدين بالدين، وغاية ما ورد فيه حديث، وفيه ما فيه (أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ(97)، والكالئ المؤخر، فهذا هو الممنوع منه بالاتفاق؛ لأنه يتضمن شغل الذمتين بغير مصلحة لهما، وأما إذا كان الدين في ذمة المسلم إليه فاشترى به شيئاً في ذمته فقد سقط الدين من ذمته، وخلفه دين آخر واجب، فهذا كبيع الساقط بالواجب، فيجوز كما يجوز بيع الساقط بالساقط في باب المقاصة(98).
وقد اشترط شيخ الإسلام ابن تيمية(99)، وتلميذه العلامة ابن القيم(100) - رحمهما الله- لجواز مثل ذلك: ألا يربح فيه، وألا يباع بما لا يباع به نسيئة.
أما المذهب: فلا يجوز ذلك - وقد حكي إجماعاً(101) - لأنه بيع دين بدين(102) ويجاب عن ذلك بما تقدم من أن بيع الدين بالدين المحرم هو بيع الواجب بالواجب لاشتغال الذمتين فيه بغير منفعة، أما هنا في بيع الواجب بالساقط فقد أفرغها من دين وشغلها بغيره، فانتقلت من شاغل إلى شاغل، ولا إجماع في المسألة، ولا نص، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام، ولا إجماع، وإنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ هو المؤخر الذي لم يقبض بالمؤخر الذي لم يقبض، فهذا لا يجوز بالاتفاق) (103).
وقال رحمه الله: (فهذا الذي لا يجوز بالإجماع، والإجماع إنما هو في الدين الواجب بالدين الواجب، كالسلف المؤجل من الطرفين(104).
قال ابن القيم -رحمه الله-: (فهذا هو الممنوع بالاتفاق؛ لأنه يتضمن شغل الذمتين بغير مصلحة لهما، وأما إذا كان الدين في ذمة المسلم إليه فاشترى به شيئاً في ذمته فقد سقط الدين من ذمته وخلفه دين آخر واجب، فهذا كبيع الساقط بالواجب(105).
فإن قيل: إن هذا سوف يتخذ حيلة على قلب الدين المحرم(106).
فالجواب: إن جواز ذلك مشروط بألا يربح فيه - كما تقدم- وبهذا يزول هذا الإشكال. فإن قيل: إن لشيخ الإسلام(107)، وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله- كلاماً قد يشكل على اختيارهما في هذه المسألة(108)، وهو قولهما: لا يجوز أن يجعل المسلم فيه (دين السلم)- سلماً وثمناً لمسلم فيه آخر.
فالجواب عن ذلك من وجهين: الأول: أنهما ذكرا ذلك بناء على التسليم بصحة حديث: "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره(109)".(110)
الثاني: أنهما لا يجيزان ذلك إذا كان سيربح فيه، أما إذا لم يربح فيه فلا بأس به عندهما(111)(112).
وقد سألت الشيخ الفقيه العلامة محمد بن صالح العثيمين-رحمه الله- عن هذه المسألة، وهي: إسقاط الدين الثابت في ذمة شخص وجعله ثمناً لموصوف في الذمة مؤجل معلوم.
وقرأت عليه كلام العلامة ابن القيم - في الإعلام (2/9)- الذي رجح فيه جواز ذلك، وذكر أنه اختيار شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم قلت: ما رأيكم في ذلك؟ هل هو جائز؟
فقال الشيخ- رحمه الله-: نعم، هذا جائز، وليس فيه شيء، لكن بشرط ألا يربح فيه، وبشرط آخر ألا يبيعه بما لا يباع به نسيئة. ا.هـ.
فقلت: لقد باعه بمؤجل، ألا يشترط أن يكون حالاً؟
فال الشيخ -رحمه الله-:لا، لا يشترط؛ لأن الثمن قد قبض. ا.هـ.
فقلت: لقد قلتم -حفظكم الله- في الفرائد صـ 161-: (الخامس: ألا يبيعه بمؤجل فإن باعه بمؤجل فحرام باطل؛ لأنه بيع دين بدين).
فقال الشيخ-رحمه الله-: (إن المحذور في ذلك أن يؤجل من أجل أن يربح فيه، أما إذا لم يربح فلا بأس، ما دام الثمن قد قبض. ا.هـ.
فقلت: وقلتم أيضاً في الفرائد: (لأنه يتخذ حيلة على قلب الدين المحرم)، وقلتم أيضاً في مختارات من الإعلام صـ 39-: (وفيه محذور، وهو التحيل على قلب الدين كما هو ظاهر) فقال الشيخ -رحمه الله-: هذا إذا ربح فيه، أما إذا لم يربح، وأخذه بسعر يومه فلا بأس. ا.هـ، يوم الأحد 23/6/1420هـ.
ثم راجعته في المسألة مرة أخرى وقرأت عليه كلامه السابق الموجود في الفرائد، والمختارات مرة أخرى فأكد لي جواز ذلك بالشرطين السابقين.
فقلت له: إن لشيخ الإسلام، وتلميذه العلامة ابن القيم -رحمهما الله- كلاماً قد يشكل على اختيارهما في هذه المسألة، وهو قولهما: إنه لا يجوز أن يجعل المسلم فيه ثمناً لمسلم فيه آخر- وقد تقدم ذلك قريباً-.
فقال الشيخ -رحمه الله- هذا إذا كان سيربح فيه، أما إذا لم يربح، فلا بأس به عندهما ا.هـ، يوم الأربعاء 26/6/1420هـ.
فإن قيل: فإذا ارتفع سعر المسلم فيه عند حول أجله ارتفاعاً معتاداً، فهل يؤثر ذلك على صحة العقد؟
فالجواب: لا، لا يؤثر؛ لكون العقد قد وقع صحيحاً؛ لخلوه من الربح في الدين المبيع (المسلم فيه).
لكن يبقى أن يقال: هل يلزم المسلم أن يدفع للمسلم إليه القدر الزائد الذي طرأ في السعر؟
فالجواب: أن ذلك محل نظر، فقد يقال بذلك، لئلا يربح فيما لم يضمن، وقد يقال بعدمه - يعني أنه لا يلزمه ذلك- لأنه لم يشترط ذلك، ولم يكن له يدٌ فيه؛ وإنما هو رزق ساقه الله -تعالى- إليه، بسبب ارتفاع الأسعار المعتاد. والله أعلم.
المبحث الثاني
شروط جواز بيع الدين
يشترط لجواز بيع الدين - وهو تلخيص لما معنى- ما يلي:
الشرط الأول: "أن يكون معلوماً"(113) فإن كان مجهولاً لم يصح، إلا على سبيل المصالحة(114).
الشرط: أن يباع بسعر يومه (ألا يربح فيه). وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها.." (115)، ولأنه إذا باعه بأكثر من سعر يومه ربح فيه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم- عن ربح ما لم يُضمن(116)، أي نهى عن الربح في شيء لم يدخل في ضمان البائع، والدين في ضمان من هو في ذمته، (في ضمان المدين)، ولم يدخل بعد في ضمان من هو له (في ضمان الدائن) حتى يجوز له الربح فيه. (117) قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (فلم يجوِّز بيع الدين ممن هو عليه بربح، فإنه ربح فيما لم يضمن، فإنه لم يقبض، ولم يصر في ضمانه، والربح إنما يكون للتاجر الذي نفع الناس بتجارته، فأخذ الربح بإزاء نفعه، فلم يأكل أموال الناس بالباطل) (118).
ثم قال رحمه الله: (فإذا كان له دين وباعه من المدين بربح فقد أكل هذا الربح بالباطل، إذا كان لم يضمن الدين ولم يعمل فيه عملاً) (119).
وقال رحمه الله: (فلا يربح حتى يصير في حوزته، ويعمل فيها عملاً من أعمال التجارة: إما بنقلها إلى مكان آخر، الذي يشتري في بلد ويبيع في آخر، وإما حبسها إلى وقت آخر، وأقل ما يكون قبضها، فإن القبض عمل، وأما مجرد التخلية في المنقول فليس فيها عمل) (120).
فإن قيل: فهل يجوز بيعه بأقل من سعر يومه؟ فالجواب: نعم، يجوز ذلك؛ لأنه لم يربح فيه، بل زاد المدين خيراً، وأبرأه من بعض حقه(121).

موقع بحوث شرعية

موقع بحوث شرعية

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.