جديد الموقع
recent

الإجهاض


الدكتور : خالد بن علي المشيقح

الإجهاض
تم اختيار هذا الموضوع لسببين:
الأول: كثرة سؤال الناس عن حكمه.
الثاني: ترقي الطب، فإنه بسبب ترقي الطب أصبح أمر الإجهاض سهلا جدا فبإمكان الزوج أن يذهب بزوجته أو بإمكان المرأة أن تذهب بنفسها إلى الطبيب أو الطبيبة وخلال دقائق تكون قد أنزلت ما في بطنها.

تعريف الإجهاض في اللغة والاصطلاح:
أما في اللغة: فهو إسقاط الولد بحيث لا يعيش.
وأما في الاصطلاح: فهو إسقاط المرأة جنينها بفعل منها أو من غيرها.

تاريخ الإجهاض ونشأته:
الإجهاض ثمرة من ثمرات الدعوة إلى الحد من تعداد السكان وزيادة النمو البشري وقد وجدت هذه الدعوة قديماً في أواخر القرن الثامن عشر، وكان أول من دعا إلى هذه الفكرة وهي فكرة الحد من تعداد السكان والنمو البشري هو القسيس النصراني الإنجليزي "مالثوس" وسبب قيام فكرته زعمه بأن كثرة السكان تشكل خطراً على الموارد البشرية حيث إن السكان يتزايدون بطريقة هندسية متوالية: اثنان، أربع، ثمان، ستة عشر، اثنان وثلاثون،...إلخ، وأما بالنسبة لموارد الأرض فإنها تتزايد بطريقة حسابية: اثنان، ثلاث، أربع...إلخ.
وقد لاقت هذه الدعوة رواجا، فانتشرت هذه الدعوة في أمريكا، وكانت في أول انتشارها لقيت معارضة قوية من المجتمع والدولة ثم بعد ذلك في عام 1942م تكون في أمريكا «اتحاد تنظيم الوالدية» وهو يدعو لاستخدام موانع الحمل التي منها الإجهاض وذلك حدا للنمو البشري.
ثم أصبح هذا الاتحاد عضوا في منظمة الأمم المتحدة عام 1964م وصار لهذه المنظمة فروع كثيرة في كثير من بلدان العالم حتى البلاد الإسلامية.

موقف الإسلام والديانات الأخرى من الإجهاض:
الإجهاض في الديانات قبل الإسلام يعتبر محرما، ففي الديانة اليهودية يعتبر محرما ولا يجوز وعليه عقوبة، لكن هذه العقوبة غير مقدرة.
وكذلك أيضاً في الديانة النصرانية يعتبر الإجهاض محرما وعقوبته القتل ولهذا كان في بريطانيا إلى عام 1524م عقوبة الإجهاض هي الإعدام.
ثم خففت هذه العقوبة إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، ثم بعد ذلك خففت هذه العقوبة حتى أبيح الإجهاض في كثير من دول العالم كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.
مثل ذلك كان في أمريكا، فقد كانت عقوبة الإجهاض هناك القتل والإعدام، ثم خفف إلى السجن المؤبد، ثم خفف إلى أن أصبح مباحاً.
ويعتبر الاتحاد السوفيتي أول من أباح الإجهاض وذلك عام 1920م، ثم منعه عام 1935م؛ بسبب كثرة وفيات الأمهات بسبب الإجهاض؛ فإن الإجهاض يعود ضرره إلى الأم المجهضة ويسبب لها ضرراً قد يصل إلى الوفاة.
ثم بعد ذلك تبعت الاتحاد السوفيتي اليابان فأباحت الإجهاض لمن معه خمسة من الولد ثم بعد ذلك خفف فأبيح الإجهاض في الثلاثة الأشهر الأول.
إحصائيات عن الإجهاض:
·     وحسب تقرير منظمة الصحة العالمية فقد بلغ عدد الأجنة الذين أجهضوا حتى عام 1984م خمسين مليوناً، وبلغ عدد الأمهات اللاتي توفين بسبب الإجهاض ما بين سبعين ومئة ألف إلى مئتي ألف.
·       وفي أمريكا بلغ عدد الأجنة الذين أجهضوا ما بين عام 1973م وعام 1983م أي خلال عشر سنين خمسة عشر مليون جنينا.
·               وفي مدينة نيويورك أكثر من ثلاث مئة عيادة إجهاض بعد أن أبيح الإجهاض في أمريكا كما سبق.
ومن هذه الأعداد يتبين خطورة الإجهاض حيث إنه سبب لإهلاك الأنفس، ومما لا شك فيه أن الشرائع اتفقت على حفظ الأنفس فقد جاءت الشرائع بالمحافظة على الضروريات الخمس: الدين والنفس والعرض والعقل والمال، والإجهاض إخلال مصلحة من هذه المصالح الضرورية التي اتفقت الشرائع على المحافظة عليها.
وأيضاً موقف الشريعة الإسلامية من حيث الجملة هو تحريم الإجهاض وأنه لا يجوز لأنه؛
أولاً: جاءت الشريعة –كما أسلفنا- بحفظ الضروريات الخمس.
وثانيا: أنه يصادم مقصدا مهما من مقاصد النكاح؛ فإن من مقاصد النكاح تكثير النسل ولهذا امتن الله عز وجل على بني إسرائيل بأن كثرهم قال تعالى﴿وجعلناكم أكثر نفيراً﴾([1])، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بكثرة النكاح الذي من مقاصده كثرة النسل فقال r (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)
وثالثا: في الإجهاض سوء ظن بالله عز وجل فإنك تجد بعض الناس يلجأ إلى الإجهاض إما خوفا من تكاليف النفقة أو تكاليف التربية وما يتعلق بالرعاية وملاحظة الطفل ...إلخ، وهذا كله من سوء الظن بالله عز وجل والله عز وجل يقول:﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾([2]) فموقف الشريعة الإسلامية من الإجهاض هو التحريم إلا أنه يستثنى من ذلك مسائل معدودة كما سيأتي إن شاء الله بحثه.


حكم الإجهاض من حيث التفصيل:
الإجهاض من حيث التفصيل ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: الإجهاض الطبيعي:
 وهو عبارة عن عملية طبيعية يقوم بها الرحم لإخراج جنين لم تكتمل له عناصر الحياة.
وهذا الإجهاض يحصل للمرأة بدون إرادة منها ولا تدخل فلا يد للمرأة ولا لأجنبي فيه، وقد ثبت طبياً أن ما بين سبعين إلى ثمانين بالمئة (70% -90%) من الأجنة المجهضة طبيعياً كانت مشوهة، وهذا من رحمة الله عز وجل.
حكمه:
وحكم هذا القسم ظاهر وهو أنه لا إثم فيه ولا مؤاخذة بل ذكرنا أن مثل هذه الإجهاضات التي تقوم بها الأرحام من رحمة الله عز وجل لما ذكره الأطباء سالفاً.

القسم الثاني: الإجهاض دون ضرورة شرعية:
وهذا يقسمه العلماء إلى ثلاث حالات:
الحال الأولى: الإجهاض في مدة الأربعين .
وهذا يسأل عنه كثير من الناس فتجد بعض الناس تلد زوجته وبعد فترة تحمل فتراه يريد إنزال هذا الحمل، أو أنه يتزوج ثم تحمل زوجته قريباً فيريد إنزال هذا الحمل في فترة الأربعين.
حكمه:
اختلف فيه العلماء على قولين:
القول الأول: أنه محرم ولا يجوز.
قال به مالك واختاره جمع من المحققين كابن رجب والعز بن عبد السلام وابن الجوزي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أيضا مذهب الظاهرية.
أدلتهم:
منها: قوله تعالى﴿وإذا الموؤدة سئلت % بأي ذنب قتلت﴾([3]) والإجهاض في مرحلة النطفة يدخل في الوأد بدليل أن النبي r سمى العزل - وهو أن ينزل الزوج خارج الفرج سماه - وأداً خفياً، مع أن هذه النطفة لم تستقر في الرحم فإذا استقرت في الرحم فمن باب أولى أن إنزالها داخل في الوأد.
ومنها: حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي r قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك...) وجهه: أنه دل على أن الله عز وجل يجمع الخلق في الأربعين وفيها يبتدئ التخليق والتصوير إلا أنه تخليقا وتصويراً خفيا.
والأطباء يجمعون على القول بما ورد في هذا الحديث، وهذا من آيات النبي r فإذا كان التخليق والتصوير وإن كان خفيا يكون في مدة الأربعين فإنه لا يجوز الاعتداء عليه وانتهاك حرمته.
ومنها: أن إقامة الحد والقصاص واجب، وإذا ثبت أن هذه المرأة حامل فإنه لا يجوز إقامة الحد والقصاص عليها حتى تضع ما في بطنها ولو كان نطفة، فأُخر الحد الواجب والقصاص الواجب من أجل هذه النطفة، ولا يؤخر الواجب إلا لشيء محترم لا يجوز انتهاكه.
ومنها: وهو من أقوى أدلتهم ما ذكره الأطباء في الوقت الحاضر من أن أدق مراحل خلق الإنسان هي مرحلة النطفة ففيها يبدأ تكوين الجنين وفيها تنتقل الموروثات والطبائع والصفات الخلقية، والحمل يتأثر في هذه المرحلة ما لا يتأثر في المراحل التي تليها، فإذا كانت هذه أدق مرحلة وفيها تتجلى عظمة الله عز وجل وإجلاله فكيف يجوز الاعتداء وانتهاك هذه الحرمة، مع أن في انتهاك هذه الحرمة مصادمة لما جاءت به الشريعة مما سلف أن ذكرنا من حفظ الضروريات و المصادمة لأهم مقاصد النكاح.

القول الثاني: أنه جائز ولا بأس به.
قال به أكثر أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة.
أدلتهم:
منها : قوله تعالى:﴿يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة﴾([4]) وجهه من قوله:﴿مخلقة وغير مخلقة﴾ فدل ذلك على أن التخليق لا يكون إلا في مرحلة المضغة فمرحلة النطفة لا تخليق فيها، فإذا لم يكن فيها تخليق فلا حرمة لها ويجوز انتهاكها.
وأجيب عنه: بأن الآية لا يستلزم منها عدم وجود التخليق قبل المضغة في حال النطفة بل التخليق موجود لأن التخليق الذي دلت عليه النصوص ينقسم إلى قسمين:
الأول: تخليق خفي وهذا دل عليه حديث ابن مسعود كما شهد له الأطباء.
الثاني: تخليق ظاهر وهو الذي دلت عليه الآية.
ومنها: حديث جابر "كنا نعزل والقرآن ينزل" فالنبي r أقرهم على العزل فدل ذلك على أن النطفة لا حرمة لها.
وأجيب: بالفرق بين الحالين فالعزل لم تستقر فيه النطفة في الرحم ولم يحصل لها تكوين أو تخليق بخلاف حال النطفة في الرحم فإنها مستقرة فيه في مكان مكين كما قال تعالى:﴿ألم نخلقكم من ماء مهين % فجعلناه في قرار مكين﴾([5]) فإذا كانت في قرار مكين يعني ؛ في مكان حافظ لما أودع فيه فإنه لا يجوز انتهاك هذا المكان المكين الذي حفظت فيه هذه النطفة. ففرق بين مسألة العزل ومسألة استقرار النطفة في الرحم.
والقاعدة: أن الدفع أهون من الرفع . فدفع النطفة والعزل أهون من إخراجها من مكانها الذي أودعت فيه.
ومنها: قولهم: إن الجنين في حال النطفة لم تخلق وإذا كان كذلك فإنه لا يبعث يوم القيامة، فإذا كان لا يبعث فإنه لا حرمة له فيجوز انتهاكه وإسقاطه .
وأجيب: بأن هذا استدلال بمحل النزاع، ونظر في مواجهة الأثر.
الترجيح:
على هذا يكون الأقرب في مثل هذه المسألة أنه لا يجوز إسقاط النطفة بغرض التخلص من الحمل أو خشية نفقات الولد أو تربيته أو التخفف من الأولاد ونحو ذلك.
وقد توصلت ندوة الأبحاث التي عقدت في الكويت عام 1403هـ إلى أنه لا يجوز إجهاض النطفة؛ لما سبق أن ذكر من الأدلة إلا في حال الضرورة القصوى.
وكذلك فتوى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية عام 1407هـ : أن النطفة لا يجوز إجهاضها إلا إذا خشي على سلامة الأم كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

الحال الثانية: الإجهاض بعد الأربعين إلى نفخ الروح. وللعلماء فيه قولان:
الأول: التحريم وعدم الجواز.
قال به الذين قالوا بعدم الجواز في مدة الأربعين في حال النطفة قالوا: وعدم الجواز هنا من باب أولى، وهم المالكية والظاهرية وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن رجب والعز بن عبد السلام وابن الجوزي وكذلك الحنابلة.
الثاني: الجواز.
قال به الحنفية والشافعية.
الترجيح :
إذا كان الراجح كما تقدم لا يجوز الإجهاض في مرحلة النطفة ففي مرحلة العلقة ومرحلة المضغة من باب أولى أنه لا يجوز.

الحال الثالثة : الإجهاض بعد نفخ الروح .
العلماء مجمعون على أنه لا يجوز الإجهاض فإذا تم له أربعة أشهر فإنه يرسل إليه الملك كما في حديث ابن مسعود وتنفخ فيه الروح، فلا يجوز إجهاضه.
الدليل: لما في ذلك من قتل النفس المعصومة وقد قال الله عز وجل ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق﴾([6])
وفي حديث ابن مسعود أن النبي r قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة) وهذا الحمل في الإسلام هو تابع لخير أبويه فلا يجوز إجهاضه.

الخلاصة :
تلخص لنا في الحالة الثانية من حالات الإجهاض إذا كان لغير ضرورة شرعية أنه لا يجوز في كل مراحله الثلاثة، لا في مرحلة النطفة ولا في مرحلة ما بعد الأربعين مرحلة العلقة والمضغة ولا في مرحلة ما بعد نفخ الروح.

القسم الثالث: الإجهاض لضرورة شرعية :
بأن يكون بقاء الجنين يسبب خطرا على حياة الأم، كأن تكون الأم مريضة بمرض من الأمراض، وبقاء هذا الجنين يسبب خطرا على حياتها بتزايد هذا المرض، مثل أن تكون مريضة بمرض القلب أو الكلى أو تكون مصابة بأمراض خبيثة كسرطان الثدي وسرطان عنق الرحم أو أمراض الدم..إلخ، المهم أن بقاء الجنين يكون خطرا على سلامة الأم.
فهل يجوز إجهاض الجنين في مثل هذه الحال من أجل سلامة الأم أو أن هذا غير جائز؟
هذا القسم فيه حالتان:

الحال الأولى: ما قبل نفخ الروح.
الفقهاء المعاصرون ذهبوا إلى جواز إجهاض الجنين إذا كان في إجهاضه سلامة للأم وبقاؤه يكون خطرا على حياتها، ومن ذلك فتوى اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية عام 1416هـ فقد جاء فيها « ولا يجوز إسقاط الحمل أي قبل نفخ الروح- حتى تقرر لجنة طبية موثوقة أن استمراره خطر على سلامة أمه بعد استنفاذ كافة الوسائل لتلافي الأخطار » .
وقد أشار الفقهاء المتقدمون إلى شيء من ذلك فقد أشار إلى ذلك بعض الشافعية لأن الشافعية يتوسعون في الإجهاض.

التعليل:
استدلوا على ذلك بأن الضرر الأشد يزال بالأخف . وقالوا: بأنه يرتكب أهون الشرين، فإجهاض الجنين فيه ضرر، وموت الأم فيه ضرر فيرتكب أخف الضررين ؛ فإجهاض الجنين أهون من هلاك الأم .
فالأصل في الإجهاض تقدم أنه حرام لكن لهذه القاعدة ، وقاعدة : الضرورات تبيح المحظورات أجاز الفقهاء المتأخرون هذا واشترطوا له شروطا :
1-    أن يوجد مرض حقيقي يعرض حياة الأم للخطر.
2-    أن يتعذر علاج هذا المرض إلا بالإجهاض.
3-    أن يقرر من يوثق بقوله من الأطباء أن الإجهاض هو السبيل الوحيد لاستنقاذ الأم.
فإن توفرت هذه الشروط توجه القول بجواز إجهاض هذا الجنين.
ولا بد من تحقق هذه الشروط لأن الأطباء في الوقت الحاضر يقررون بأنه لا يكاد يوجد مرض واحد يوجب الإجهاض فأمراض الأم يمكن أن تعالج بغير الإجهاض وذلك بسبب تقدم الطب، ولهذا ذكر الدكتور محمد البار أنه لا يوجد إلا مرض واحد الذي قد يسبب عدم الإجهاض فيه خطرا على حياة الأم وهو تسمم الحمل، أما ما عدا ذلك من الأمراض فلا حاجة فيها إلى الإجهاض لأنه بسبب تقدم الطب ممكن أن تعالج مثل هذه الأمراض.
وبهذا تعرف أن تهاون بعض الأطباء وقولهم: إن الأم مريضة وأن هذا الحمل يكون خطرا عليها فلا بد من إجهاضه أن هذا الكلام فيه نظر.
فالأصل هو تحريم الإجهاض إلا إذا توفرت هذه الشروط الشرعية مع الاحتياط والحذر.

الحال الثانية: ما بعد نفخ الروح
يعني للجنين أربعة أشهر وزيادة وبقاء هذا الجنين يسبب خطرا على أمه فإما أن نجهض الجنين ونقتله وتسلم الأم وإما أن نبقي الجنين فتموت الأم.
حكمه:
القول الأول:
العلماء في السابق يكادون يجمعون على تحريم الإجهاض حتى لو أدى ذلك إلى وفاة الأم،
وممن ذهب إليه في الوقت الحاضر الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله وأنه لا يجوز قتل هذا الجنين.
أدلتهم:
منها: قالوا: إنه مما لا خلاف فيه بين العلماء أنه لا يجوز لشخص أن يقتل شخصا ولو أكره على القتل حتى ولو أدى ذلك إلى إزهاق نفسه يعني : لو أن شخصا أكره شخصا على أن يقتل زيدا من الناس أو يُقتل هو، قالوا : لا يجوز له أن يقدم على قتله ولو أدى ذلك إلى قتل هذا المكره.
فمثله أيضا المرأة فلا يجوز أن نقتل هذا الجنين لاستبقاء نفس الأم .
ومنها: قالوا: الإجماع منعقد على أن الإنسان إذا كان مضطرا وكان في مخمصة فإنه لا يجوز له أن يقتل نفسا معصومة من أجل أن يأكلها ويستبقي نفسه. فكذلك هنا لا يجوز أن نقتل هذا الجنين لكي نستبقي نفس الأم.
ومنها: ما ذكر ابن نجيم قال: إحياء نفس بنفس هذا لم يرد في الأدلة بالاستقراء استقراء الشريعة.
القول الثاني:
ما ذهب إليه أكثر العلماء المعاصرين قالوا: إذا ثبت ثبوتا محققا وفاة الأم إن لم نجهض هذا الجنين جاز الإجهاض.
أدلتهم:
منها: قالوا : الجنين لا يسلم غالبا فإذا هلكت الأم هلك الجنين، فإما أن نجهض الجنين فتسلم الأم وإلا فإن الجنين الغالب لا يسلم لأنه إذا هلكت الأم هلك الجنين معها لأنه كجزء من أجزائها.
وأجيب : بأن هذا القول فيه نظر فإن العلماء إذا كانوا في السابق يتكلمون عما إذا ماتت المرأة وأنه يمكن السطو على بطنها وشقه واستنقاذ الجنين فما بالك اليوم فيما يتعلق بتقدم الطب، فإنه بالإمكان أن يشق بطن الأم ويخرج الجنين حتى وإن لم يكتمل له ستة أشهر فبالإمكان أن يرعى هذا الجنين حتى ينمو.
ومنها: قالوا : الجنين تابع لأمه وجزء من أجزائها وباتفاق العلماء أنه يجوز أن يقطع جزء من أجزاء الإنسان لكي يسلم باقيه فمثلا لو كان في الإنسان يد متآكلة أو رجل متآكلة ولا يسلم إلا بقطع هذا الجزء المتآكل فإننا نقطع هذا الجزء المتآكل لكي يسلم باقيه ، فمثله أيضا الجنين قالوا : هو كالجزء المتآكل نقطعه لكي تسلم الأم.
وأجيب : بأن هذا قياس مع الفارق فكل منهما نفس معصومة مستقلة.
ومنها: استدلالهم بالقواعد مثل قاعدة: المشقة تجلب التيسير. ويرتكب أهون الشرين ونحوها.

القسم الرابع: إجهاض النطفة المحرمة.
يعني : إذا كان سبب الإجهاض أخلاقيا كما لو حصل زنى وحملت المرأة بسبب هذا الزنا ، فهل يجهض الجنين أو لا يجهض ؟
من المعروف في وقتنا الحاضر انتشار الزنا في بلاد الكفر وفي كثير من بلاد الإسلام، وسبب انتشاره ما يوجد النوم من آلات اللهو وعرض الأفلام المسلسلات التي تدعو إلى هذه الفاحشة ، فلما انتشر الزنا في بلاد الكفر اضطرت هذه البلاد إلى القول بإباحة الإجهاض فأصدرت القرارات التي تبيح الإجهاض، بل أصبح الإجهاض في بعض البلاد تجارة رابحة يروج لها في الصحف ويدعا إليها بالإعلانات، وسبق أن أشرنا أنه في مدينة نيويورك الأمريكية ما يقرب من ثلاث مئة عيادة متخصصة في إجهاض الأجنة.

حكمه:
إجهاض النطفة المحرمة له حالان:

الحال الأولى: ما قبل نفخ الروح:
 اختلف الفقهاء المعاصرون فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: عدم الجواز، فليس هناك حاجة للإجهاض.
دليلهم:
قصة الغامدية فإنها أتت النبي r وهي حبلى من الزنا فلم يقم النبي r عليها الحد حتى وضعت ، ولو كان هذا الجنين يجوز إجهاضه لأقام النبي r حد الزنا عليها، لأنه لو أقيم عليها حد الزنا ستتلف وسيتلف الجنين، وإنما أخر النبي r إقامة الحد عليها ولدت، مما يدل على أن هذا الحمل ولو كان قبل نفخ الروح فإن له حرمة فلا تنتهك.
القول الثاني: التفصيل: فإن كان الزنا عن إكراه جاز إجهاض الجنين الناشئ عنه قبل نفخ الروح ، وإن كان عن رضا بين الزانيين فإنه لا يجوز.
التعليل : لأنه إذا كان عن إكراه فإن المرأة تكون معذورة لأن هذا الجنين سيسبب لها ضررا وأذى ، فما دام أنها معذورة جاز إجهاضه.
القول الثالث: الجواز مطلقا : سواء كان الزنا عن إكراه أو عن رضا.
التعليل :
1_ لأن هذه النطفة محرمة، والمحرم شرعاً كالمعدوم حسا فليس لها حرمة ، وأذكر قبل سنوات أنني سألت الشيخ محمدا (يعني ابن عثيمين) رحمه الله عن إجهاض النطفة المحرمة قبل نفخ الروح، فأجاب بأنها تجهض .
2_ أيضا : فإن هذه النطفة تسبب ضررا وأذى بالنسبة للمرأة وعائلتها.
3_ وأيضا : نفس الجنين بعد ولادته سيلحقه شيء من الأذى والضرر لكونه ابن زنا.

الترجيح :
 الأقرب في هذه المسألة التفصيل فإن كانت المرأة أكرهت على الزنا أو كان الزنا عن رضا وتابت ورجعت إلى الله عز وجل فإنه يجوز إجهاض هذا الجنين ما دام قبل نفخ الروح ؛ لأن بقاءه فيه ضرر على أمه وعلى أسرته وحتى عليه هو بعد وجوده . والقواعد الشرعية أنه يرتكب أخف الضررين و أهون الشرين ، والمشقة تجلب التيسير ، مع أن هذه النطفة نطفة محرمة شرعا وما كان محرما شرعا فهو كالمعدوم حسا.
وأما إذا كان الزنا عن رضا ورغبة ولم تتب وترجع فإن الإجهاض محرم ولا يجوز .

الحال الثانية : ما كان بعد نفخ الروح .
بأن تم لهذا الجنين عشرون ومئة يوم فإن إسقاطه محرم ولا يجوز، لما في ذلك من قتل نفس معصومة ، فإن هذا الجنين لما نفخت فيه الروح أصبح نفسا معصومة لا يجوز الإقدام على قتلها .
والأضرار التي تلحق بالأم أو بالجنين بعد ولادته فإنها لا تساوي ضرر قتله فإن قتله من أكبر الكبائر والله عز وجل يقول : ﴿ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ﴾([7]) ويقول : ﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ﴾([8]) وتقدم حديث ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث...)
وأيضا : فإن من مقاصد الشريعة حفظ الضروريات الخمس التي اتفقت عليها الشرائع ، ومنها ما يتعلق بحفظ النفس .
فإذا كان الإجهاض بعد نفخ الروح فإنه لا يجوز ويأثم به صاحبه ويكون أتى كبيرة من كبائر الذنوب ، ويأخذ حكم العمد في قتل الجنين ويترتب عليه ما ذكره العلماء رحمهم الله من إيجاب الدية والمعاقبة .

القسم الخامس: الإجهاض خشية تشوه الجنين .
تشوه الجنين : هو عبارة عن توقع إصابة الجنين بعاهات خلقية .
ذكر الأطباء أن التشوهات التي تحصل للأجنة ثلاثة أنواع :

النوع الأول: التشوهات التي تحصل للأجنة في الأسبوعين الأولين من الحمل.
فإذا تعرضت الأجنة في هذين الأسبوعين لعوامل مؤثرة خارجية فإن الغالب أنها تتلف ، وأيضا الغالب أن الأرحام تقوم بإلقاء هذه الأجنة التي حصل لها هذا العيب ، وسبق أن أشرنا إلى الإجهاض الطبيعي وأنه عبارة عن عملية طبيعية يقوم بها الرحم في إسقاط الأجنة المعيبة وذكرنا أن الأطباء يقولون : إن ما بين سبعين إلى تسعين بالمئة (70%-90%) من الأجنة التي تسقط بالإجهاض الطبيعي أنها تكون مشوهة .

النوع الثاني: التشوهات التي تحصل ما بين الأسبوع الثالث إلى الثامن.
فهذه المرحلة من أدق المراحل فيما يتعلق بحدوث التشوهات للأجنة، فالجنين في هذه المرحلة يتأثر بالعوامل الخارجية وينحسر عن مساره ويخرج مشوهاً.
وقد ذكر الأطباء أن العوامل التي تؤدي إلى التأثير على الأجنة في هذه المرحلة الثانية كثيرة ، يذكرون منها : العوامل الوراثية ، وتناول الأدوية ، والمركبات الكيماوية والتعرض للإشعاعات...إلخ. فينبغي أن يحتاط للجنين من العوامل التي تؤدي إلى تعيبه في هذه المرحلة فإنه يتأثر في هذه المرحلة وأما في المرحلة السابقة فإنه لو حصل تأثر فإنه يسقط بإذن الله عز وجل في الغالب.

النوع الثالث : التشوهات التي تحصل بعد المرحلة الثانية ، ويقول الأطباء : إن الجنين غالبا لا يتأثر بالتشوهات في هذه المرحلة ولو حصل له تأثر فإنه يكون طفيفا .


الموقف الشرعي من الجنين المشوه.
الحكم الشرعي للجنين المشوه يتلخص في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى : منع هذه التشوهات وذلك بالاحتياط للأجنة ، فتحتاط الأم ويحتاط الأب بالوقاية من المؤثرات الخارجية التي قد تؤدي إلى التأثير على الجنين ، وقد ذكرنا شيئا منها والشريعة قد جاءت بقاعدة : سد الذرائع.
النقطة الثانية : علاج هذه التشوهات فإذا أمكن علاج الجنين وهو في بطن أمه - إذا تحقق الأطباء من وجود هذه التشوهات - فإن هذا هو الواجب.
النقطة الثالثة : الإجهاض : وهل يصار إليه أو لا يصار إليه إذا لم يتمكن الأطباء من علاج هذه التشوهات ؟
حكمه :
هذه التشوهات يقسمها الفقهاء في الوقت الحاضر إلى نوعين:
النوع الأول : التشوهات التي تصل قبل نفخ الروح.
يعني : يكتشف أن هذا الجنين قد حصلت له عيوب خلقية قبل نفخ الروح.
فهذا أكثر المعاصرين يجوزون إجهاض الجنين في هذه المرحلة لقاعدة : ارتكاب أخف الضررين ، فالإجهاض ضرر وخروجه معيباً عيباً خلقياً ضرر عليه وعلى والديه.
النوع الثاني : اكتشاف العيوب والتشوهات الخلقية بعد نفخ الروح.
فهذا لا يجوز إجهاضه ؛ لما تقدم من الأدلة على حرمة قتل النفس لأنه بعد نفخ الروح أصبح نفساً معصومة لا يجوز الإقدام على قتلها وانتهاك حرمتها .
لكن تقدم لنا أن أكثر المعاصرين يجوزون إجهاض الجنين بعد نفخ الروح إذا كان في بقائه ضرر محقق على أمه، وعلى هذا إذا كان الجنين مشوها خلقيا ومريضا ومرضه سيؤدي إلى تضرر الأم- هلاك محقق- فعلى ما سبق أن ذكرنا من الخلاف بين المتقدمين والمتأخرين في حكم الإجهاض ، فالمتقدمون لا يرون الإجهاض والمتأخرون يقولون : إن كان سيحصل هلاك محقق للأم فإنه يجهض .
&   تنبيه :
ذكر بعض الأطباء : إن ما يتعلق بالعيوب التي تصيب الأجنة أنها أمور ظنية ، يعني ليست أموراً محققة ، وعليه فإنه لا يجوز للوالدين وكذلك الطبيب التسرع في الإجهاض لأن هذه أمور ظنية فالأطباء تارة يذكرون شيئاً ثم ينقضونه ، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني : قال : إن هذه التشوهات الغالب أنها لا تكتشف إلا بعد نفخ الروح ، فإذا كان كذلك فتقدم أنه لا يجوز الإجهاض بعد نفخ الروح إلا على قول المتأخرين الذين جوزوا الإجهاض إذا كان في بقاء الجنين ضرر محقق أو هلاك محقق للأم .



([1])   سورة الإسراء آية(6)
([2])   سورة هود آية(6)
([3])   سورة التكوير آية(8-9)
([4])   سورة الحج آية(5)
([5])   سورة المرسلات(20-21)
([6])   سورة الأنعام آية:(151)
([7]) سورة النساء آية: (29)
([8]) سورة الإسراء آية: (33)
موقع بحوث شرعية

موقع بحوث شرعية

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.